ارتبط التخفيف بحصول المشقة التي تفتح للصائم باب الترخص، لذا يكون ضبط المشقة وضبط الرخص يعطي لما قدمناه وضوحًا وتدقيقا.
المشقة: عقد القرافي في الفروق (الفصل الرابع عشر للفرق بين المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها) أورد فيه سؤالا مهماً وهو: ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها؟ يقول: فإذا سألنا الفقهاء يقولون: يرجع إلى العرف، فيحيلون على غيرهم، ولا نجد ذلك، ولم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، وهم لا يصح تقليدهم في الدين، ثم أن الفقهاء من جملة أهل العرف، فلو كان في العرف شيء لوجدوه معلومًا لهم أو معروفًا.
ويجيب عنه، بأن هذا السؤال ينبغي أن يكون الجواب عنه أن ما لم يرد فيه الشرع، بتحديد يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خير من التعطيل فيما اعتبره الشرع، فنقول: يجب على الفقيه أن يبحث عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو بإجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطًا، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطًا، مثاله التأذي بالقمل في الحج جعله مبيحًا للحلق في حديث كعب بن عجرة، فأي أمر كان مثله أو أعلى منه أباح وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق ". (١)
فالقرافي أراد أن يحرر الترخص بضبط المعيار الذي توزن به المشاق فجعله في المقدار الذي له دليل شرعي على اعتباره، ثم مقارنة ما يعرض على الفقيه بذلك المستوى، وفي باب الصيام اعتبر المعيار المنصوص عليه هو السفر، والسفر حسب طبيعته ليس علة ولكنه مظنة العلة، وذلك لعدم انضباطه، فليس السفر راجلًا كالسفر راكبًا، والركوب على الدابة غير الركوب على الدراجة والسيارة والطائرة، ومشقة السفر زمن الحَرِّ الشديد أو البرد المجمد غيرها زمن اعتدال الهواء والحرارة، ولعل وجعَ الأصبع الذي رفض قبوله الفقهاء أشق من السفر بالطائرة من جدة إلى المدينة في فصل الربيع، ولذا فإن ضبط المشقة برجوعنا إلى التأصيل تبعا للقواعد والتعمق في أسرار التشريع أعون على إدراك المرض المسقط للوجوب.
ولما كان الانتقال من تحتم الصيام إلى الإذن في الفطر رخصة؛ يكون ضبط الرخصة وتحديدها مساعدًا في هذا المقام على تبين حكم الإفطار بعذر المرض.