أما أولا: فلأن من النتائج اللازمة لعقد البيع انتقال ملك المبيع إلى المشتري، فلما تم البيع بين الفريقين، انتقلت البضاعة إلى ملك المشتري، ولم يبقَ للبائع إلا مطالبة الثمن الذي ثبت في ذمة المشتري. وهو الدين الذي تمثله الكمبيالة، وبعد ثبوت هذه النقود في ذمة المشتري، لم يبقَ هناك أي فرق بين النقود المقترضة، وبين النقود التي ثبتت في ذمته بسبب الشراء، وإن هذه النقود ليست قائمة مقام البضاعة بحيث يمكن عود البضاعة إلى محلها، وإنما هي عوض عن البضاعة المبيعة التي تم بيعها بيعًا باتًّا لا رجعة فيه، فلا يمكن أن تجري عليها أحكام البضاعة. وإلا لصارت جميع النقود التي حصل عليها الإنسان ثمنًا للبضاعة قائمة مقام البضاعة في جواز تداوله بالتفاضل، وهو محظور بالبداهة.
وثانيًا: القول بأن الكمبيالة بيع للبضاعة التي يقوم الدين مقامها يستلزم أن يقع على البضاعة الواحدة بيعان لجهتين مختلفتين، فإن البضاعة تم بيعها إلى مصدر الكمبيالة وانتقل ملكها إليه فكيف يبيع حامل الكمبيالة نفس هذه البضاعة إلى جهة أخرى؟ مع أن حامل الكمبيالة ليس مالكًا لها، ولا الجهة الأخرى تحصل على هذه البضاعة في مرحلة من مراحل العملية.
وثالثًا: إن هذا الدليل معارض للنص، وهو حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:
كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (١) .
دل هذا الحديث على أنه إذا وقع البيع على نقد من النقود، ثم أراد المتبايعان أن يحولوه إلى نقد آخر، فإن ذلك إنما يجوز بشرطين: الأول أن يكون على سعر يوم الأداء، والثاني: أن يتم الأداء في المجلس ولا يبقى في ذمة المشتري شيء.
ولا يخفى أن المبيع في هذه العملية إبل، وثبت ثمنها بالدراهم مثلاً في ذمة المشتري، فكأنما أصبحت دينًا في ذمته، وإنه يريد أن يستبدلها بالدنانير، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن يقع الاستبدال بسعر يوم الأداء، وبأن لا يبقى شيء من الثمن في ذمة المشتري. وإنما اشترط هذين الشرطين لأنه، صلى الله عليه وسلم، جعل هذا الاستبدال صرفًا، فاشترط فيه ما يشترط لجواز الصرف، مع أن أصل البيع كان للإبل؛ ولو كان ثمن البضاعة يقوم مقام البضاعة كما قاله هؤلاء الإخوة؛ لكان هذا الاستبدال شراء للبضاعة نفسها، ولم يشترط لجوازه ما يشترط للصرف.
ولينظر أن هذه العملية وقعت بين البائع والمشتري، ولم يتخللها ثالث، وكان من السهل أن يقال: إنهما فسخا البيع السابق، وعقداه من جديد على أساس الدنانير، ولذلك لا يشترط فيه سعر يوم الأداء، ولا التقابض، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله صرفا ليحترز من كل شبهة للربا، وكذلك كان هذا بيعا للدين ممن هو عليه، ومع ذلك اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم تساوي البدلين في السعر، فيشترط هذا الشرط من باب أولى في بيع الدين من غير من هو عليه، لأن تخلل الثالث أبعد كل احتمال للاستبدال أو فسخ البيع السابق وعقده من جديد.
٢- إن بعض هؤلاء الإخوة استدلوا بما روي عن المالكية وعن بعض الشافعية أنهم أجازوا بيع الدين من غير من هو عليه، وتمسكوا بلفظ " بيع الدين "، وقالوا: متى جاز بيع الدين، فإن البيع يقتضي أن يجوز بكل ما اتفق عليه العاقدان من ثمن، فيجوز بيع الدين بأقل من مبلغ الدين إذا تراضى عليه الطرفان.
(١) سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم ٣٣٥٤: ٣: ٢٥ وهذا لفظه؛ وأخرجه الترمذي في البيوع، باب ما جاء في الصرف، رقم ١٢٤٢؛ والنسائي: ٧ / ٢٨١، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة، وابن ماجه، باب اقتضاء الذهب من الورق، رقم ٢٢٦٢، ورجاله ثقات.