للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الدليل أضعف من الأول، لأنه حينما يقال بجواز بيع شيء، فإن الجواز يخضع لجميع الشروط اللازمة في مثل ذلك البيع، فمثلاً: إذا قلنا يجوز بيع الذهب، فليس معناها أنه يجوز بذهب أقل منه أو أكثر، وإنما المراد أنه يجوز هذا البيع بجميع شروطه المعتبرة، ومنها أنه إذا بيع بجنسه فلا يجوز فيه التفاضل. وكذلك حينما ذكر هؤلاء الفقهاء جواز بيع الدين فإنما قالوا بجوازه بجميع الشروط المعتبرة، ومنها أنه إذا كان الدين من الأموال الربوية وبيع بجنسه فإنه لا يجوز التفاضل. وقد صرح بذلك العلماء المالكية كما سبق في تنقيح مذهبهم. أما الشافعية، فإنهم تصوروا بيع الدين بغير جنسه، فإنهم مثلوه بشراء العبد بالدراهم في ذمة المديون ولذلك لم يذكروا شرط التساوي، فإن هذا الشرط من البديهيات إذا كان الدين من الأموال الربوية، ووقع بيعه بجنسه. وقد ذكروا في مسألة الاستبدال (وهو بيع الدين ممن هو عليه) أنه إذا وقع الاستبدال في الأموال الربوية، اشترط قبض البدل في المجلس (١) فظهر أنهم اشترطوا في الأموال الربوية جميع الشروط اللازمة لجواز البيع فيها.

٣- وربما استدل بعضهم بما ذهب إليه العلماء من جواز "ضع وتعجّل" استدلالاً بقصة بني النضير حينما أجلوا من المدينة المنورة وكانت لهم ديون على أهل المدينة، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم: ((ضعوا وتعجلوا)) فحطوا من ديونهم وتعجلوها من المديونين (٢) .

والواقع أن جمهور فقهاء الأمة ذهبوا إلى منع " ضع وتعجل " وهو مذهب عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري وابن المسيب والحكم بن عتبة، والشعبي. والأئمة الأربعة (٣) وضعفوا حديث بني النضير، نعم روي عن عبد الله بن عباس وإبراهيم النخعي وزفر بن الهذيل وأبي ثور جوازه، وإليه ذهب العلامة ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، رحمهم الله تعالى (٤) ، ولكن الذين ذهبوا إلى جوازه، إنما جوزوه إذا كان ذلك فيما بين الدائن والمدين، ولم يجوزه أحد منهم إذا تخلل ثالث في العملية، فلا يقاس حسم الكمبيالة على مسألة "ضع وتعجل" لأن الدائن مالك للدين، فله أن يضع من الدين ما شاء. أما من يشتري الدين بنقد، فإنه يشتري النقود الواجبة في ذمة المديون، فهو في حكم بيع النقود بالنقود، ولا يجوز فيه التفاضل.

وإن هذه المسألة صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونصه:

" الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية " (٥) .

حكم الكمبيالة على أساس الحوالة:

ثم إن ما ذكرناه من حكم الكمبيالة مبني على أساس كونه بيعًا للدين. والذي يظهر لي أن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة، وإنما هو إقراض وحوالة. فالذي يحسم الكمبيالة يقرض إلى حاملها مبلغًا ثم يحيل الحامل المقترض إياه على مصدر الكمبيالة. والدليل على ذلك أن في قوانين معظم البلاد لا يتحمل الحاسم خطر عدم التسديد، بل يحق له أن يرجع على حامل الكمبيالة إذا لم يقع التسديد من مصدر الكمبيالة، وهذا شأن الحوالة (على مذهب الحنفية) .

وعلى هذا، فما يعطيه حاسم الكمبيالة قرض أقرضه إلى حاملها بشرط أن يحيله على مديونه بمبلغ أكثر منه، وهو ربا صراح، لأن الحوالة من صحة شرطها تساوي الدينين، وقد تحقق هنا بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة.


(١) المجموع شرح المهذب: ٩ / ٢٩٩.
(٢) راجع السنن الكبرى للبيهقي: ٦ / ٣٨ كتاب البيوع، وقد بسطت الكلام على هذا الحديث وعلى أدلة مذاهب الفقهاء في المسألة في كتابي " بحوث في قضايا فقهية معاصرة" مبحث البيع بالتقسيط.
(٣) راجع موطأ مالك: ١ / ٦٠٦؛ ومصنف عبد الرزاق: ٨ / ٧١ – ٧٤ وموطأ الإمام محمد: ١ / ٣٣٢؛ والمغني لابن قدامة: ٤ / ١٧٤ و ١٧٥.
(٤) كنز العمال: ٢ / ٢٣٥؛ وأعلام الموقعين: ٣ / ٣٧١.
(٥) قرار رقم: ٦٦ / ٢ / ٧ / مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: ٢ / ٢١٧، فقرة ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>