للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبالإضافة إلى ذلك فإن للدين آثارًا سلبية في نطاق الأخلاق والاجتماع والسياسة، فقد أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى خطورة الدين على الأخلاق والسلوك، فقد روى الشيخان وغيرهما بسندهم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! قال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)) (١) ، بالإضافة إلى أنه قد يسلك سبلاً ملتوية في سبيل الحصول على المال، ولا سيما إذا رأى بجنبه الأغنياء المترفين، وقد قيل قديمًا: إن صوت المعدة لا تنكر قوته (٢) .

وفي نطاق السياسة كان للديون آثارها الكبيرة في تبرير المستعمر احتلاله لبعض البلدان، أو كان من خلالها يعبر نحوها عبر شركاتها الاحتكارية، فقد كانت الشركات الشرقية البريطانية هي التي مهدت لاحتلالها الهند، كما أن للديون المتراكمة على الخلافة العثمانية آثارًا خطيرة في إسقاطها (٣) ، ولا تزال كثرة الديون وتراكمها على بعض الدول الإسلامية لها آثارها الخطيرة على قراراتها السياسية، حيث غلت يداها عما تريده حقًا.

ثالثًا – أسباب الديون وتفاقمها:

توجد للديون أسباب مباشرة، وغير مباشرة، فالأولى هي ما يسميه الفقه الإسلامي بالسبب الشرعي، حيث سمى العقد مثلاً سببًا لترتب آثاره، ويسميه الفقه الوضعي بمصادر الالتزام، والثانية هي التي تكون وراء العقد، أو الضمان، فمثلاً إن السبب غير المباشر للقرض هو الحاجة إلى المال التي تدفع صاحبها إلى الاستقراض وهكذا.

إذًا فالأسباب المباشرة للديون هي:

١- العقود التي تترتب عليها التزامات مالية في ذمة الإنسان، وهي تشمل عقد البيع، والقرض، والنكاح، وغيرها؛ ولا شك أن القرض هو أهم أسباب الديون.

٢- التصرف الانفرادي كالنذر ونحوه.

٣- الضمان حيث هو سبب لثبوت ما ضمن به من المتلفات، والديات في ذمة المتلف.

٤- تحمل الحمالة والالتزامات عن الناس.

٥- القرابة والمصاهرة حيث جعلهما الشرع سببين لثبوت النفقة على تفصيل فيها.

وأسباب الديون غير المباشرة (٤) .

إذا كانت تلك الأمور السابقة أسبابًا مباشرة للديون فإن وراء هذه الأسباب أسبابًا أخرى غير مباشرة، فإذا كان القرض هو السبب الشرعي للدين ومصدره، فإن الحاجة هي السبب للاستقراض، وكذلك الأمر بالنسبة للضمان، فالإتلاف هو السبب للضمان الذي يترتب عليه دين في الذمة وهكذا.

فلما كان السبب الرئيسي في الديون هو القرض، فإن الحاجة هي السبب الرئيسي له، ولذلك سنلقي بصيصًا من الضوء على الحاجة وأسبابها.

فحاجة الفرد إلى النقود أو الأعيان لأي غرض من الأغراض تدفعه إلى الاستقراض أو تجعله غير قادر على أداء ما عليه، بحيث لا يتوفر عنده مال أو عنده ولكنه لا يكفي لتلبية متطلباته المشروعة أو غير المشروعة، فقد يكون الشخص له مال ولكنه لجشعه يستدين ليأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الصنف الأخير لا يمثل الشريحة العريضة للمجتمع.

إذن فالسبب الغالب هو الحاجة إلى المال، ويعود سببها بإيجاز إلى الأمور الآتية:

١- الكسل حتى تأكل نفقاته أمواله فيحتاج إلى الاستدانة.

٢- عدم الاكتساب، أو يكتسب لكنه بشكل لا يفي بحاجاته أو متطلباته وذلك بأن يعمل في نطاق عمل لا يستطيع الإجادة فيه فيخسر أو لا يربح، وبعبارة أخرى لا يشتغل بعمل يناسب طاقاته الخاصة ومهاراته البدنية أو الفكرية أو لا يقوم بالتثمير والاستثمار في أمواله، أو يقوم به ولكن مع عدم وضع خطة دقيقة وإسناد الأمر إلى غير أهله لا ينجح المشروع.


(١) صحيح البخاري – كتاب الاستقراض: ٥ / ٥٤؛ ومسلم – كتاب المساجد: ١ / ١٢؛ والسنن الكبرى للبيهقي: ٥ / ٣٥٦.
(٢) الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، ص ٤.
(٣) مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة وتعليق د. محمد حرب – دار الهلال، ص ٣٣.
(٤) يراجع: بدائع الصنائع: ٥ / ٢١٩٦ – ٢٢٤٨؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: ٢ / ٥٠٨؛ والروضة: ٩ /٤٠؛ والكافي: ٣ / ٣٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>