للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه – كما سبق -.

والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما (١) . بحيث ينقطع طعمه في الفسخ، ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كـ منافع الإجارة. فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدو صلاحها له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه ونظائره كبيرة.

وأيضًا فبيعه من بائعة شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.

وأيضًا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.

فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، فكما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان.

ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال: ((أحسب كل شيء بمنزلة الطعام)) ، ومع هذا فلقد ثبت عنه أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه. ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع، لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟

وأيضًا: فإنه لو سلم المسلم فيه، ثم أعاده إليه جاز. أي فائدة في أخذه منه. ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟

ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.


(١) شرح سنن أبي داود للحافظ ابن القيم، بهامش عون المعبود: ٩ / ٣٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>