للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يجب ملاحظة أن بيع الدين النقدي بالعرض لا بالنقود لا يتولد عنه مثل ذلك الأثر لأسباب:

منها؛ أن المعاملات التي تحري فيها تبقى جزءًا من سوق السلع الحقيقية، أما في الطريقة التقليدية فإن المعاملات يتولد لها سوق مستقلة عن أسواق السلع ومنفصلة عنها. إن المشكلة الأساسية في نظام الربا أن يقسم الاقتصاد إلى قطاعين منفصلين؛ الأول خاص بإنتاج السلع والخدمات الحقيقية وهو القطاع الذي تتولد فيه الأرباح والنمو الحقيقي في الاقتصاد الوطني، والثاني هو قطاع الديون حيث يتحقق التزايد لمجرد تفاعل قوى العرض والطلب على الديون التي تمتص نتائج القطاع الحقيقي.

١ -٧ بعض صور بيع الدين التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا:

١-٧-١ بيع الكالئ بالكالئ:

الكالئ بالكالئ يعني لغةً النسيئة بالنسيئة (١) . والنسيئة هي التأخير. وبيع الكالئ بالكالئ يعني بيع الدين بالدين. وقد ورد في الحديث فيما رواه الدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبه وعبد الرزاق ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) . وقد اختلف العلماء في مسألتين:

الأولى: سند الحديث، فوهنه أكثرهم ولم يحتجوا به لضعف سنده، قال الإمام أحمد: " ليس في هذا حديث يصح " (٢) .

والثانية: اختلافهم في معناه وصوره التي وقع عليها النهي، كما سيأتي تفصيله.

أما ضعف إسناده فأغنى عنه الإجماع على معناه وتلقي الأمة له بالقبول واحتجاج العلماء به على مر العصور، وبخاصة في معانيه التي يوافقها القياس بتحريم بيع الدين بالدين. ولبيع الكالئ بالكالئ معان وردت في كتب الفقهاء أهمها:

أ- ابتداء الدين بالدين قالوا: وصورته " كما لو أسلم شيئًا في شيء الذمة "، مثل أن يشتري زيد من عمرو سلمًا ولا ينقده بل يؤخر له الثمن. فكلاهما مؤخر (٣) . وإجماع العلماء على عدم جواز هذه الصورة وهي مؤجل بمؤجل. وقد ذكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن إجماع المحكي عن تحريم الكالئ بالكالئ إنما يقتصر على هذا الصورة (٤) . وعلة منع هذه الصيغة من البيوع في نظرهم لأن فيها شغل ذمتين بلا فائدة لأي منهما. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة " (٥) . وابتداءً الدين بالدين يختلف عن البيع المضاف في أن الأخير (أي البيع المضاف) واقع على عين موجودة. كما يختلف عن بيع الموصوفات الغائبة لأن ذلك يقع أيضًا على أعيان وأثمان موجودة وإن كانت غائبة عن مجلس العقد. أما ابتداءً الدين بالدين فهو بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة، أي أنه يكون على شرط السلم مع تأجيل دفع رأس المال.

ب – فسخ الدين بالدين: وصورته، بيع دين ثابت في الذمة إلى المدين بغير جنسه إلى أجل: مثل أن يكون زيد مدينًا لعمرو بمائة دينار ثم يدخلان قبل حلول الأجل في عقد سلم يبيع زيد فيه كر قمح إلى عمرو، بأجل جديد. أما إن كان بعد حلول الأجل فلا بأس (٦) ، وقد حكي أن الإجماع على عدم جواز هذه الصورة من بيع الدين بالدين لأنها تؤول إلى ربا النسيئة، فالزيادة الطارئة على الدين المؤجل أخفيت في عقد سلم جديد.

ج- بيع الدين بالدين: وهي بيع الدين من غير من هو عليه بثمن موصوف في الذمة مؤجل ولا يدخل في هذه الصورة الحوالة أوجمهور فقهاء المذاهب على عدم جواز هذه الصورة، وقد عدها المالكية من صور الكالئ بالكالئ (٧) . قال مالك في الموطأ: "والكالئ بالكالئ أن يبيع الرجل دينًا له على رجل بدين على رجل آخر" (٨) . وجاء في مسائل الإمام أحمد " سألت أبا عبد الله عن الكالئ بالكالئ قال: الدين بالدين، قيل له: كيف يكون الدين بالدين؟ قال: مثل الرجل يكون له على الرجل دين ويكون على الآخر دين فيحيل هذا على هذا وهذا على هذا ". (٩) وجلي من كل ذلك أن صور بيع الكالئ بالكالئ التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا لا يدخل فيها الصورة المشتهرة في يوم الناس هذا وهي بيع الدين بالنقد (أي بالعين) ، وهذه الصورة وإن كانت غير جائزة فإنها لا تدخل في ما يسمى بيع الكالئ بالكالئ، بل هي مختلفة عنه.


(١) لسان العرب، لابن منظور.
(٢) نيل الأوطار، للشوكاني: ٥/١٥٤.
(٣) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ٢٠/٥١٢.
(٤) نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص ١٤.
(٥) إعلام الموقعين، لابن القيم: ٢/٩.
(٦) نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ، ص ٢٦.
(٧) المنتقى شرح الموطأ، للباجي: ٥/٣٣.
(٨) الموطأ مع حاشية الزرقاني: ٣/٣٠٨.
(٩) مسائل الإمام أحمد بن حنبل، لإسحاق بن هاني، تحقيق زهير الشاويش – المكتب الإسلامي ٢٠/١٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>