للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الشافعية فقد اختلفت رواياتهم في قضية بيع الدين من غير المدين. فمنهم من لم يذكر إلا عدم الجواز كالنووي – رحمه الله – في منهاج الطالبين، ومنهم منذ كر وجهين: الجواز وعدمه، ورجح الجواز. ومنهم من قيد الجواز بما إذا قبض المشتري الدين من المدين في مجلس العقد وهذا الشرط في الحقيقة يؤول إلى عدم الجواز، لأن الدين متى قبض في المجلس لم يبقَ دينًا. ومنهم من اقتصر على ما إذا كان دين غير المديون من الأموال الربوية.

وقد ذكر فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري أن هناك اختلافًا فيما بين علماء الإمامية في مخرج بيع الدين من غير من عليه الدين، فأجازه بعضهم ومنعه بعضهم، ولعله رجح الجواز ولم يتعرض فضيلته في هذا الكتاب لشروط الجواز عند من يجوزه، وذكر أنه يشترط عنده ألا يكون هذا البيع بأكثر، بمعنى التساوي.

فبالرغم من هذه الاختلافات الجزئية التي ذكرها الباحثون فإن جميع المذاهب الفقهية المذكورة متفقة على رأي واحد، وهو أنه إذا كان الدين نقدًا فلا يجوز بيعه بثمن أقل أو أكثر، إما لأن بيع الدين من غير المدين لا يجوز أصلاً وإما لأن من شروط جوازه التساوي إذا كان جنسهما واحدًا كما هو قول المالكية وبعض الشافعية.

وبهذا يتحصل أن عمليات توريد الديون والمتاجرة بها كما يقع في أرباح الرأسمالية اليوم لا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية المذكورة. واتفق على هذه النقطة الأبحاث الستة.

نأتي الآن إلى بيان شيء من التفصيل لهذه الأوراق المالية، فالنوع الأول منها هو (السندات) (Bonds) ، وربما تصدرها الشركات المساهمة لزيادة قدرتها المالية. فهذا السند مورد لهذه الشركات وهي بديلة لهم على أساس الفائدة. وقد تصدرها الحكومات للشعب ليستردوا منهم، وأخرى تصدرها البنوك والمؤسسات المالية وتسمى سندات الخزينة، وإن البنوك والمؤسسات المالية يشترونها على أساس المزايدة. ومعنى بيع هذه السندات أن مشتريها أقرض مبلغ الثمن إلى الحكومة واستحق من خلال هذا الإقراض أن يحصل على قيمة السند الاسمية عند حلول أجله.

إن هذه السندات كلها ربوية من أصلها، حيث إن المقرض يلتزم فيها بأداء مبلغ القرض وزيادة، فلا يخفى حرمة تداولها لأنها تؤدي إلى تعامل ربوي حرام. ولكن لو فرضنا أن هذه السندات أصدرت من قبل الحكومة على أساس القرض الشرعي بدون فائدة، فهل يجوز بيعها؟ يتأتى فيه الخلاف المذكور في بيع الدين، فلا يجوز بيعها عند الحنفية والحنابلة والظاهرية مطلقًا، وكذلك لا يجوز في الظاهر عند الشافعية. نعم يجوز ذلك عند من لا يشترط لجواز بيع الدين أن يقبض الدين في المجلس، فإن اشتريت هذه السندات بعين من الأعيان، مثل الثوب، أو الحبوب الغذائية، أو الأشياء الأخرى غير النقود فهذا البيع جائز على هذا القول مطلقًا. أما إذا اشتريت بالنقود فلم أجد من فقهاء الشافعية تصريحًا في هذا الباب، ولكن قياس قولهم في الصرف أن لا يجوز، لأن بيع النقود بالنقود صرف، ويشترط فيه التقايض في المجلس.

أما المالكية فيجوز عندهم بيع الدين لغير المدين بالشروط التي ذكرناها في تحقيق مذهبهم، ومن جملة هذه الشروط أنه إذا بيع الدين بجنسه فإنه يشترط فيه التساوي. فإن كان السند قيمته مائة فلا يباع إلا بمائة لا يزاد ولا ينقص، ومن الظاهر أن هذا الشرط لا يحصل به غرض السوق الثانوية التي تباع فيها السندات، فالحاصل أن التعامل الذي يجري في سوق الأوراق المالية من بيع السندات وشرائها محرم شرعًا. وعلى هذا اتفقت جميع البحوث.

<<  <  ج: ص:  >  >>