للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد شرحت صور التوريق في الاقتصاد المعاصر وسوق الأوراق المالية، ثم انتقلت إلى حكمه في الشريعة الإسلامية وذكرت أن النظر الفقهي يقتضي التفريق بين نوعين من المديونية: مديونية النقود، ومديونية السلع.

أما بالنسبة لتوريق الدين النقدي: فإذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء – أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.

وبنيت على ذلك أنه لا يجوز توريق دين المرابحة للآمر بالشراء (المرابحة المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية أو الأفراد في سوق ثانوية أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم.

وأشرت بعد ذلك إلى أن عدم جواز توريق المديونية النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية، أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارسته لأمكن الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.

وبيان ذلك أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.

أولًا: بناء على قول مالك والنخعي والقاضي شريح وزفر بن الهذيل وغيرهم بجواز الشراء بالدين من غير من هو عليه الدين، وقد أوردت نص الإمام مالك في الموطأ ونصوص المبسوط للسرخسي التي تشهد لما ادعيته.

ثانيًا: تخريجًا على القول المشهور في مذهب المالكية وهو وجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد اختارها ورجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو جواز بيع الدين النقدي المؤجل لغير المدين بسلعة حاضرة، إذا انتفى عدم القدرة على تسليم الدين في محله.

وبناء على ذلك يمكن للبنك الإسلامي أن يشتري مثلاً ألف سيارة بثمن معجل، ثم يبيعها للعملاء بثمن مؤجل موثق بكفيل أو رهن، ولا حرج بعد ذلك شرعًا في أن يعمد إلى توريق تلك الديون التي على عملائه لمرة واحدة، والشراء بصكوكها كمية أخرى من السيارات الحاضرة من المصنع مثلاً، ثم يبيعها بثمن مؤجل موثق آخر، ثم يورق ثمنها لمرة واحدة، ويشتري به سلعًا حاضرة أخرى غيرها، وهكذا. وبذلك لا تتجمد تلك الديون النقدية المؤجلة في الفترة ما بين ثبوتها في الذمة وحلول أجلها، بل تتحول إلى ما يشبه النقود السائلة بجعلها ثمنًا لسلع عينية حاضرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>