للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمر الثالث: وقع الحديث عن المتاجرة بقصد الربح. إذا أباح الله شيئًا فقد أباحه بكل ما يترتب عليه وهو أعلم، وسبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: ١٤] ، ولنا في هذا سابقية في الحج {ِليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: ٢٨] . فالتفريق بين هذا جائز وهذا لا، ما اقتنعت بالدليل الذي اعتمد إليه الذاهب إلى ذلك. كما أن الربح السريع لم يحرمه الشرع. حرم الغش وحرم الخداع، حرم كل شيء، أما الربح السريع فذلك رزق يرزقه الله من يشاء، وكما يتحقق الربح السريع تتحقق الخسارة السريعة. فهذا الذي دخل السوق ربح أو خسر إنما جاءه قدر الله الذي قدره له.

الأسهم: أخذنا قرارًا في مجمعنا على أنها تمثل حقًا في موجودات الشركة، ولذلك قلنا: لا تباع قبل أن تتحول هذه الإسهامات الأولى إلى أعيان، فإذا تحولت في معظمها إلى أعيان أصبح يجوز بيع السهم باعتبار أن المقابل هو ما يأخذه المسهم وما يدخل في ملكه على حسب الاشتراط من الأعيان، ولهذا يجوز له أن يأخذ السهم طمعًا في الربح الذي يتحقق للشركة في نهاية السنة ويجوز له أن يشتري السهم ليربح فيه إذا غلا السهم، وغلاء السهم يتبعه أيضًا إمكانية رخصه وخسارته، وهذا حلال ولا أستطيع أن أقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز وأنه لا فارق بينهما.

جاءت قضية المضاربة من جمال لغتنا العربية واسمحوا لي إذا رجعت إلى العربية دائمًا. من جمال لغتنا أن فيها الاشتراك وأن الاشتراك يكون حتى بين الضدين، وكثير من الكلمات تستعمل في الشيء وضده ويؤخذ المعنى حسب المقام، ثم إن اللفظ بعد الاشتراك يأخذ في سوق الكلام قبولاً عاما إلى أن ينقلب إلى حقيقة عرفية خاصة أو إلى حقيقة عرفية عامة، وكما تعلمون فقد أفاضالقول في هذا الإمام القرافي في (الفروق) وأبدع رحمة الله عليه. فكلمة (المضاربة) هي كلمة مستعملة في معنيين، معنى شرعي هو القراض، ومعنى محرم شرعًا وهو القمار، فاستعمالها لا حرج فيه وهو جار على عرف عربي معلوم.

استمعت اليوم إلى أن المباح يقع على قسمين: قسم يعتمد فيه الإباحة الأصلية، وقسم هو مبني على الإباحة التي وجد بها نص شرعي، وأن هناك من قال إن التحقيق فرق بينهما. هذا التحقيق أؤكد أنه ليس تحقيقًا ذلك أن تتبعي القاصر للأحكام الشرعية في مفهومها ما وجدت رجلاً اعتنى بها اعتناءً كاملاً كـ الشاطبي في الجزء الأول من (الموافقات) . وما اعتنى الشاطبي من بين الأحكام الشرعية كاعتنائه بالمباح. فقد اعتنى بالمباح اعتناءً دقيقًا وتتبعه تتبعًا دقيقًا واعتمد في ذلك على النصوص الشرعية، وما وجدت له أن هناك مباح ونصف مباح!! فالتفرقة بين هذا وذاك هو أمر لا أساس له إلا أن الله تعالى يبيح لنا أشياء وينص على إباحتها – هي مباحة بالعرف الأصلي – تأكيدًا.

والذي فهمته واقتنعت به بعد تتبعي للمباحات الشرعية المنصوص عليها هو إشارة للامتنان الإلهي حتى تنطلق الألسنة بالشكر على من علله عليهم بالإباحة. وإذا تتبعنا الآيات التي وردت فيها الإباحة وجدنا أن الإباحة يتبعها الدعوة إلى الشكر وللاعتراف بالفضل وإلى النظر في التيسير، فقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: ١٥] ، فهذه إباحة وأكدها وأراد أن تطبق، لكن إذا أخذت دولنا اليوم بمنع هذا المباح وأرادت أن تحتفظ بحدودها القومية ولا تترك واحدًا يدخل مع أنه جاء في معرض الامتنان والتحريض عليه، فهذه طريقة استعملها الشارع وهي معنى المباح وأن التحليل فيه إظهار المزية وأن ولي الأمر أخذ قرارًا يمنع غير المواطن من دخول بلده إلا بتأشيرة، وكلنا يأخذ تأشيرة قبل أن يقدم. وتارة المباح ينص عليه بقصد إظهار التوسعة مع بيان أن عدم الأخذ بالتوسعة أولى، وفي هذا كثير من المباحات التي أباحها الشرع إظهارًا للتوسعة، ولكنه ينص مع ذلك أن عدم التوسعة أولى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: ٢٣٨] .

وهنا أنهي كلامي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>