للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول أيضا رحمه الله تعالى ردا على ذلك: "وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله. . كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه.

فالأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. .

والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو، ورضي به وشرعه.

وأما العقود والشروط والمعاملات، فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه؛ لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله " (١) .

وقد وضع الإسلام ضوابط في المعاملات، تحفظ للناس حقوقهم ومصالحهم الحقيقية، وتمنع كل مظهر من مظاهر الظلم والغش والخديعة والغرر، وغير ذلك مما يعود بالضرر على المتعاملين، أو يغرس العداوة والبغضاء في النفوس، أو يفقد الناس الثقة فيما بينهم، كما أن الإسلام يقر كل عادة حميدة، فقد أقر العرب بعد الإسلام على العادات والخصال الموافقة لشرع الله، غير أن هذبها وأحسن توجيهها.

ومن هنا ندرك أن التشريع الإلهي، وهو وحده الذي يضمن الحفاظ على مصالح العباد جلبًا، ورعاية واستدامة، ويدفع عنهم المفاسد عاجلها وآجلها، ويجعلهم جميعًا سواسية أمام حكمه، حتى لا ينزل الظلم بأحد.

وقد جعل سبحانه الواسطة بينه وبين خلقه، في تبليغ دينه، والقيام بيان وحيه – رسله الذين اصطفاهم واختارهم من بيان خلقه، حتى إذا ختم الله سبحانه رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، أناط مهمة البيان بأهل العلم، وأخذ عليهم العهد في القيام بذلك حتى لا تندرس معالم الشريعة، فيعم بسبب ذلك الجهل والضلال، وتتغلب الأهواء، ويتصدر للقول في دين الله من ليس لذلك بأهل، ولذلك جاء الوعيد الشديد لمن يكتم العلم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) }

[البقرة: ١٥٩ – ١٦٠] .

ومما جاء في السنة النبوية، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)) (٢) .

وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تداول العلم وتبليغه، ضمانًا لحفظه وصيانته، ففي أبي داود والترمذي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضَّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)) (٣) ... وفي لفظ للترمذي وأحمد وابن ماجة: ((فرب مبلغ أوعى من سامع)) (٤) .

وقد شرف الله عز وجل أهل العلم، بأن جعلهم أهل الوراثة النبوية، كما جاء في الحديث، وإن العلماء ورثة الأنبياء (٥) .


(١) إعلام الموقعين: ١ / ٣٨٤ – ٣٨٥.
(٢) سنن أبي داود برقم (٣٦٥٨) ؛ ورواه الترمذي برقم (٢٥١) ، والحديث حسن؛ كما قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في هامش جامع الأصول: ٨ / ١٢.
(٣) رواه الترمذي برقم (٢٦٥٨) ؛ وأبو داود برقم (٣٦٦٠) .
(٤) رواه الترمذي برقم (٢٦٩٥) ح وأحمد: ١ / ٤٣٧؛ وابن ماجة برقم (٢٣٢) .
(٥) من حديث طويل رواه أبو داود برقم (٣٦٤١) ؛ والترمذي برقم (٢٦٨٣) عن أبي الدرداء.

<<  <  ج: ص:  >  >>