للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهناك آثار أخرى تدل على أن ذلك كان المنهج الغالب عند التابعين أيضاً، ثم جاءت مرحلة تدوين الأحاديث والآثار، واتسعت دائرة العلم بالرواية، فاجتمع – باهتمام أولئك من الحديث والآثار – ما لم يجتمع لأحد قبلهم، وتيسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبله، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير، حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها، فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل ... فكم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلدة خاصة؛ كأفراد الشاميين والعراقيين، أو أهل بيت خاصة، كنسخة بريد (١) عن أبي بردة، عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلاً خاملاً لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون، فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار كل بلد من الصحابة والتابعين.

وكانوا إذا عرضت لهم مسألة، يسلكون المنهج الآتي في حل معضلتها:

فقد كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول منه إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان (٢) مستفيضاً دائراً بين الفقهاء، أو يكون مختصاً بأهل بلد، أو أهل بيت، أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث، فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين.

وإذا أفرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثاً أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم، فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علماً، وأورعهم ورعاً، وأكثرهم ضبطا، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولان ... فهي مسألة ذات قولين، فإن عجزوا عن ذلك أيضاً تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر " (٣) .


(١) هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، تهذيب التهذيب: ١ / ٤٣١.
(٢) أي سواء كان الثابت من السنة ... إلخ.
(٣) حجة الله البالغة: ١ / ١٤٨ – ١٤٩، بشيء من الاختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>