للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا أثراً من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء، وقضاة الأمصار، وفقهاء البلدان أو استنباطاً من عموم أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأناً وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأعمقهم فقهاً أحمد بن محمد بن حنبل، ثم إسحاق بن راهوية " (١) .

ثم مرت بعد ذلك بالفقه مرحلة أصيب فيها بالركود وعدم الاجتهاد، وذلك بعد القرون الأربعة الأولى، فقد جاء قوم "اطمأنوا بالتقليد، ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون " (٢) .

ولا شك أن هذا المنهج أورث جناية عظيمة على الإسلام وعلومه، حيث أغلق على العقول المستنيرة ذات المعرفة الواسعة باب الغوص في معاني النصوص الشرعية لتستخرج منها ما أودع الله عز وجل فيها من كنوز، فتبرز بذلك عظمة الإسلام، وتتصدى لحل كل معضلة، وكشف كل شبهة، وتتحرر من التبعية العمياء، كما أن العقول بسبب ذلك تصاب بالوأد، وتعجز عن الإبداع، ولذلك شنع كثير من أهل العلم على التقليد، إذا صدر ممن كان له ضرب من الاجتهاد، ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر له ظهوراً بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ: إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة، فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يرى جماً غفيراً من المتبحرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك، فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي، أو حمق جلي، وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حيث قال: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده " (٣)

وقال: "لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلداً له فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب " (٤)


(١) حجة الله البالغة: ١ / ١٥٠.
(٢) حجة الله البالغة: ١ / ١٥٣.
(٣) قواعد الأحكام: ٢ / ١٣٥.
(٤) قواعد الأحكام: ٢ / ١٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>