للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما قدم الشافعي أيضاً الحديث الضعيف على القياس، كتقديمه خبر تحريم صيد "وج " (١) وخبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفهما على القياس.

وقدم الإمام مالك الحديث المرسل، والمنقطع، والبلاغات، وقول الصحابي على القياس.

وهذا كله منهم اجتهاد في تقديم ما هو الأرجح عند عدم الدليل، وقد يكون لهم من ذلك مندوحة، وإن كانوا متفاوتين في الأخذ بالأولى من الأدلة الأخرى، غير أن الذي يعاب على قوم ممن اشتغلوا بالفقه الإسلامي، استنادهم إلى القياس الفاسد، أو الرأي المذموم، كما بالغ بعضهم في رد القياس على الإطلاق سواء أكان صحيحاً أو فاسداً، وكل ذلك مجانب للصواب، وقد أوفى الإمام ابن القيم – رحمه الله – المقام حقه، بما لا يزيد عليه، فذكر أولاً ما كان عليه الصحابة من الاجتهاد عند النوازل، سواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كاجتهادهم في فهم الأمر يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة (٢) ، واجتهاد علي رضي الله عنه في غلام اختصم في شأنه ثلاثة نفر، كل منهم يقول إنه ابنه، فأقرع علي رضي الله عنه بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذة من قضاء علي رضي الله عنه (٣) .

وكذلك اجتهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه، في بني قريظة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)) (٤) . وكذلك اجتهاد الصحابيين الذين أدركتهما الصلاة في السفر ولا ماء معهما فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر فصوبهما صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)) ، وقال للآخر: ((لك الأجر مرتين)) (٥) .

وذكر قصة مجزز المدلجي حين حكم بالقيافة على أن أقدام زيد وابنه أسامة بعضها من بعض (٦) ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سر بذلك حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق (٧)


(١) روى الإمام أحمد في مسنده: ١ / ١٦٥، عن الزبير رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى بالله عليه وسلم من ليلة، حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل نخباً ببصره – يعني واديًّا – ووقف حتى اتفق الناس كلهم، ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله. وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف ... انتهى. ورواه أبو داود في المناسك برقم (٢٠٣٢) .
(٢) رواه البخاري في المغازي، عن ابن عمر: ٥ / ٥٠؛ ومسلم في الجهاد، عن عبد الله بن مسعود برقم (١٧٧٠) .
(٣) رواه أحمد: ٤ / ٣٧٣، عن زيد بن أرقم؛ وأبو داود عنه أيضاً، برقم (٢٢٦٩ – ٢٢٧٠) ؛ قال صاحب القاموس: "ووج: اسم واد بالطائف ". اهـ.
(٤) أبو داود برقم (٣٣٨) ؛ والنسائي: ١ / ٢١٣؛ والدارمي: ١ / ١٩٠؛ والبيهقي: ١ / ٢٣١؛ والحاكم: ١ / ١٧٨؛ وصححه ووافقه الذهبي، واستوفى في طرقه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير برقم (٢١٢) ، كلهم عن أبي سعيد الخدري.
(٥) البخاري، في المناقب: ٤ / ٢١٣ ومسلم برقم (١٤٥٩) ؛ وأبو داود برقم (٢٢٦٧) ؛ والترمذي برقم (٢١٢٩) ؛ وأحمد: ٦ / ٨٦، ٢٢٦.
(٦) انظر إعلام الموقعين: ١ / ٢٢٢ – ٢٢٣.
(٧) إعلام الموقعين: ١ / ٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>