للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غيرِ عرض ما أمر به على الكتاب ١ (١) ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب، ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول، فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (٢) .... وقال: ((إنما الطاعة في المعروف)) (٣) " (٤) .

وبعد هذا البيان لنوعي الرأي المحمود والمذموم، نود هنا أن نبين أن من عظمة الشريعة الإسلامية قدرتها على استيعاب كل قضية تجد في حياة الناس، ولما لم يوجد نص كل قضية، وإنما ترد إلى ما يماثلها، أو يؤخذ حكمها من قاعدة عامة، ونص محتمل، وغير ذلك فإننا نجد أهل العلم منذ عصر الصحابة حتى اليوم أعملوا الفكر في النصوص، واستنبطوا لكل قضية في شرع الله حكماً.

فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله (٥) .

فالأخذ بالقياس – مثلاً – والانتفاع به مما فطر الله عليه عباده، ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: ١٠] جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها، وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] ... إرادة النهي عن جميع وجوه الأذى بالقول والفعل، وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بصق رجل في وجه والديه، وضربهما بالنعل، وقال: إني لم أقل لهما أف، تعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل، من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة؛ فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة، وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريقة كان؛ عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء ... أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله، وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، أو يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره وشبهه، فيقطع العارف به، وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا (٦) .

وهذا ضرب من استخراج الأحكام، واستنباطها من مظانها، وهو من شأن أهل العلم والمعرفة.

وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل، ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره. . ويلغى ما لا يصح ... هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.


(١) لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله تعالى، ولأنه لا يصدر منه شيء يعارض ما في الكتاب.
(٢) رواه أحمد: ١/٤٠٩ عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(٣) رواه مسلم برقم (١٨٤٠) عن علي رضي الله عنه.
(٤) إعلام الموقعين: ١/٤٩.
(٥) إعلام الموقعين: ١ / ٢٣٨.
(٦) إعلام الموقعين: ١ / ٢٣٩ – ٢٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>