للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويلاحظ أن مسألة تغير الأحكام بتغير الأزمان، لست أخذاً بالعرف، وإنما هي تطبيق بمبدأ المصالح المرسلة، لأن فساد الأحوال ليس من قبيل الأعراف المتعارفة، وإنما هو انحراف في الأخلاق، أو تبدل وسائل التنظيم، مما يجعل ظروف الاجتهاد الجديدة ومراعاة المصالح هي الدافعة لتغير الأحكام، وليست مجرد نشوء أعراف جديدة (١) .

- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء:

تتطلب عدالة المفتي أموراً ثلاثة إذا اختار أحد آراء المذاهب: (٢) .

أ- أن يتبع القول لدليله: أن يعمل بالراجح دليلاً من الآراء إذا تعارضت الأدلة، ولا يختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً، لأن الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة، واتباع الشرع إنما يكون بالدليل وليس اتباعاً للهوى، والأدلة يجب فيها اتباع الراجح، أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع.

ب- أن يجتهد ما أمكن الاجتهاد في أن لا يترك الأمر المجمع عليه إلى المختلف فيه، لأن اتباع الإجماع واجب أولاً.

ج- أن لا يتبع أهواء الناس، بل يتبع المصلحة والدليل، والمصلحة المعتبرة: هي مصلحة الكافة. وهذه الضوابط عامة في العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والعلاقات الدولية ونحوها.

ضوابط الفتوى بالنوازل والعمل الفقهي:

إذا كانت النازلة أو المسألة المستجدة مشابهة لما سبقها، فيقضى أو يفتى بها، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة وأصولها، ومحققة للمصلحة الزمنية والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة. وأما إذا اختلفت المصلحة، أو تبدل العرف، فيمكن الاستفادة من صنيع المفتين السابقين، ومعرفة كيفية الإفتاء، والتعلم من طرائق الاستدلال التي سلكوها، وتنزيلها على المقاصد التشريعية والأصول الاستدلالية، ويمكن حصر هذه الأصول أو الضوابط بعشرة، وهي كفيلة بتجديد حيوية الفقه، ومعرفة كيفية الاستفادة من فتاوى النوازل في التطبيقات العصرية، وهذه الضوابط هي في تقديري إجمالاً عشرة، وهي ما يلي:

الضابط الأول – مراعاة الضرورة أو الحاجة:

الضرورة أشد باعثاً أو دافعاً لتجاوز القواعد القياسية العامة من الحاجة؛ فالضرورة: ما يترتب على عدم مراعاتها خطر أو ضرر شديد محقق كالموت جوعاً. وأما الحاجة: فهي ما يترتب على تركها مشقة وحرج أو عسر وصعوبة، وقد عرف الزركشي والسيوطي الضرورة فقالا: هي بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعاً أو عريانا لمات أو تلف منه عضو (٣) .

وللمالكية والحنابلة تعريف مقارب أو مشابه (٤) .

وتطبيقات الضرورة أو الحاجة من النوازل والفتاوى كثيرة، منها ما يأتي، وقاعدتها المقررة هي: الضرورات تبيح المحظورات (٥) .

فمن أمثلة الضرورة:

- كشف العورات أمام الطبيب، للمداواة.

- تناول بعض المآكل أو المشارب المحظورة لإنقاذ النفس من الهلاك أو الموت جوعاً، فيباح تناول شيء من الميتة أو الخنزير أو الخمر، أو أخذ مال شخص آخر غير مضطر مثله، لدفع خطر الهلاك، إما محققاً، أو بظن غالب، أو الوقوع في وهن لا يحتمل.

- اقتحام المنزل لإطفاء حريق أو تفادي هدم جدار وسقوطه، لكن هناك أمور ثلاثة لا تحل ولو في حال الضرورة. وإن ارتفع الإثم أو العقاب عن فاعلها، وهي الكفر والقتل والزنا.

- الأصل فيمن يتولى القضاء أن يكون مجتهداً عدلاً، لكن ذكر الغزالي في وسيطه، وحكاه عنه الرافعي في الشرح، وجزم به في المحرر، أن من ولاه ذو شوكة، نفذ حكمه، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً للضرورة، قال ابن حجر: وهذا هو اللائق بهذا الزمان.

وكذلك المتغلب على إقليم، لو نصب فاسقاً أو جاهلاً، تنفذ أحكامه للضرورة (٦) .


(١) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء، ف ٥٥٣.
(٢) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ص ٣٠ / ٧٩، ٨٠؛ أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، ص ٣٩٠.
(٣) قواعد الزركشي، مخطوط: ق ١٣٧ ب، وقد طبع أخيراً في الكويت.
(٤) المغني: ٨ / ٥٩٥؛ الشرح الكبير للدردير: ٢ / ١١٥.
(٥) المجلة: م ٢١.
(٦) فتاوى ابن حجر: ٤ / ٢٩٧ – ٢٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>