عمل المخرجين الأولين:
كان عمل المخرجين الأولين يقوم على عنصرين:
أحدهما: استخراج المناهج العامة التي تعد أصولاً للاستنباط في فقه أبي حنيفة وأصحابه.
وثانيهما: تخريج أحكام المسائل التي لم ينص عليها على ذلك.
عمل المخرجين المتأخرين:
ولما جاءت طبقات المخرجين بعد استخلاص القواعد، فكان عملهم فقط.
استخراج الأحكام للوقائع التي لم تكن قد حدثت في عصر من عصور السابقين.
ولقد سمى العلماء ما يستخرجه أولئك المخرجون من أحكام الجزئية (الواقعات، والفتاوى، والنوازل) .
وفي- هذا الصدد يقول الماتن:
وكتب ظاهر الرواية أتت
ستًّا لكل ثابت عنهم حوت
إلى أن قال:
وبعدها سائل النوازل
خرجها الأشياخ والدلائل
وهكذا، اعتبرت النوازل محور اهتمام فقهاء المذاهب بعد استقرارها.
ومن النوازل قبل استقرار المذهب حد الخمر:
قال أبو الوليد رضي الله عنه (- ٥٢ هـ) : فلا نازلة إلا والحكم فيها قائم من القرآن، إما بنص، وإما بدليل علمه من علمه، وجهله من جهله، وهذا المعنى من الاستنباط مثل ما جاء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر رضي الله عنه يجلد يها أربعين إلى أن بعث إليه خالد بن الوليد يذكر له: أن الناس قد استخفوا في الخمر، وأنهم انهمكوا فيها فما ترى في ذلك؟
فقال عمر لمن حوله – كان عنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف -: ما ترون في ذلك. ما ترى يا أبا الحسن؟ فقال: يا أمر المؤمنين أرى أن تجلد فيها ثمانين جلدة، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة ... وتابعه أصحابه على ذلك فقبله عمر وأخذ به لأنهم استنبطوه من الكتاب.
قال أبو الوليد ابن رشد رضي الله عنه:
والوجه في استنباطهم إياه منه: أنه لما كان الأصل المتفق عليه أن الحدود وضعت للردع والزجر عن المحارم وجب أن يرجع في حد الخمر إلى أشبه الحدود بها في القرآن، فكان ذلك حد القذف للمعنى الذي ذكره علي رضي الله عنه، فهذا وجه قول عمر بن العزيز رضي الله عنه:
تحدث للناس أقضيه بقدر ما أحدثوا من الفجور. لا أن تحدث لهم أقضية مبتدعة بالهوى خارجة عن الكتاب والسنة، وبالله التوفيق لا شريك له (١) .
- فالفقه يواكب دائماً الحياة ويرتبط بحركتها، ويزدهر بهذا الارتباط على أيدي القضاة والمفتين والمجتهدين الذي يتقون الله تعالى في بيان الأحكام، ومن أراد الوقوف على هذا الازدهار فليطلع على كتب النوازل وكتب الواقعات والفتاوى ... وفي مقدمة ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (٦٦١ – ٧٢٨ هـ) ، فإنك تقرأ فيها حياة كاملة بكل نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والجغرافية؛ حيث ترى تصوير حالة العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري، وتقرأ في فتاويه ومصنفاته كيف أحكم ارتباط الفقه في الحياة، بل كيف يواكب الفقه الحياة وأعاد إلى الذهن مسيرة فقهاء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، حيث يمكن وصف هذا النموذج (بفقه الواقع) ، حيث إذا نزلت نازلة يسألون فإن لم يجدوا نصاً اجتهدوا في استخراج الحكم لها ...
ومن ذلك على سبيل المثال: الأذان يوم الجمعة ... حيث زاد عثمان – رضي الله عنه – الأذان الأول على الزوراء، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، وهذه نازلة ... وهذا ما واجهه الصحابة من فقه وعمل الصحابة في ذلك. وعليه مضى العمل في التابعين فمن بعدهم إلى زماننا هذا.
(١) فتاوى ابن رشد: ٢ / ٧٦٣.