للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن النوازل تضمين الصناع:

فالصانع إذا ادعى هلاك الذين بحوزته وليست له بينة على ذلك؛ كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء قبل علي يصدق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك.

ووجه: أن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ فإن التزامهم بالصدق وبالحق صار أخف مما سبق، فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس.

فقه الواقع:

وهو الحكم الشرعي الذي يلائم المكلف في حالته التي هو عليها، والواقع هو المختبر الحقيقي لدعاوى الإصلاح (١) .

يقول ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقته ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً (٢) .

ويمكن تسمية هذا الفقه هول العلم القاصر عند الفقهاء الذين هم قادة الأمة ومعلمو دينها، وحافظو شريعتها، وباعثو نهضتها.

فالحاجة ليست تجديداً في الإسلام وإنما التجديد يجب أن يكون في نفر من الناس يتولون شؤون الإسلام والمسلمين، لأن الأزمة في تفكيرهم، لأنهم يريدون أن يقيموا الإسلام بمقاييس ليست صالحة، والدليل على ذلك مسألة البلوغ؛ فعهد الحنفية من دلائله بلوغ الصبي ثماني عشرة سنة، وعند الفتاة سبع عشرة سنة، ورواية عن الصحابين خمس عشرة سنة (٣) .

وأما عند الشافعية فمن دلائله استكمال المولود خمس عشرة سنة قمرية (٤) ؛وهو مشترك بين الذكر والأنثى، وفي رواية أخرى تسع سنوات.

فالاختلاف بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي لم يكن عن تناقض، ولكن كل واحد منهما قد تناول موضوع الرشد من جانب، لأن الحكم من ذلك يصدر عن علم بطبائع البلاد وباختلاف المناخ.

ومن المعضلات – حالياً – وسببه عدم اعتماد فقه الواقع مسألة إثبات رؤية الهلال، والتي دائمًا ترافقها منافسة في النفوذ السياسي؛ فهناك من يثبت وهنا من ينفي، وتجد السباق بينهم في الاثنين معاً من الدول، حتى تعم الفوضى والكآبة عند المسلمين.

ومحور الخلاف في هذه المسألة: هل يجوز إثباته بغير الرؤيا كالحساب، فعلى سبيل المثال: رؤية الهلال في الحجاز غالباً متحققة لصفاء الجو بخلاف البلاد الشمالية الباردة، فالجو غالباً فيها غيم ولا يمكن تحقق الرؤية، فالعلماء فريقان في الجواز والمنع، ودليل المانعين قوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (٥) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ...)) (٦) ، وهذا الكلام محل إجماع العلماء السابقين.

- والفريق الآخر بجواز إثباته بالحساب، والذي ذهب إليه بعض البغداديين كالمالكية، وبعض أكابر الشافعية كما نص عليه ابن دقيق العيد (٧) ، هذا لغيره وأما لنفسه فقد قال به ابن سريج والقفال والقاضي الطبري كما نص على ذلك الرافعي (٨) .

وذكر الإمام القرافي أنه يوجد قولين في المذهب المالكي والشافعي في اعتبار الحساب وعدمه (٩) .

فالتساؤل: لماذا لا يفتى على قول أصحاب الرأي الثاني طالما كان هناك دقة في الحساب وتطور للعلم في هذا الزمان؟ وبقي أن نشير – والتي هي من لوازم فقه الواقع – إلى التدرج في التطبيق، فالتدرج في التطبيق ليس أمراً خارجاً عن الدين كما يتوهم بعضهم، ذلك أن أمر الشارع منوط بالاستطاعة، والتكليف منوط بالطاقة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] .

لذلك ليس من فقه الواقع مطالبة المكلف بالحد الأقصى للتكليف وهو لا يطيق الحد الأدنى، المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، وأيضاً إن العدول عن العزيمة إلى الرخصة في حالات قد تؤدي العزيمة فيها إلى تفويت مقصد الدين وإيقاع المكلف في الحرج، فإقامة الحدود واجبة ولكن في الغزو منهي عن إقامتها لخبره صلى الله عليه وسلم: ((نهى أن تقطع الأيدي في الغزو)) (١٠) ، وسبب النهي هو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضباً (١١) ؛ ومنها أيضاً إبقاء الحالة على ما وقعت عليه، لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي كحديث البائل في المسجد (١٢) ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بطنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد.


(١) تأملات في الواقع الإسلامي، عمر عبيد حسنة، ص ١٢.
(٢) إعلام الموقعين: ١ / ٦٩.
(٣) الاختيار لتعليل المختار، ابن مودود: ٢ / ٩٥.
(٤) روضة الطالبين النووي: ٣ / ٤١١.
(٥) البخاري، باب الصوم: ٣ / ٣٥؛ رواه الدارقطني باب الصوم: ٢ / ١٦١ ح التنقيح: ٢ /٢٩١
(٦) البخاري، باب الصوم: ٢ / ٣٤١.
(٧) إحكام الأحكام: ٢ / ٢٦.
(٨) العزيز شرح الوجيز: ٣ / ١٧٨.
(٩) الفروق: ٢ / ١٧٨.
(١٠) رواه أبو داود.
(١١) إعلام الموقعين لابن القيم: ٣ / ١٣.
(١٢) رواه البخاري، انظر فتح الباري لابن حجر (٤٣٠ – ٤٣١) ، كتاب الوضوء، باب ٥٨، حديث رقم (٢٢١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>