للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأنزل الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: ٥٣] ، وقال في غيرهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصدق والعفاف لأن ذلك كان ملائماً لطبائعهم حاثًّا على الدخول في الإسلام، وكذلك ألَّف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام إلى دفعه لهم من الأموال، وامتنع عن قتل جماعة من المنافقين، وقد عرف بنفاقهم خوفاً أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام.

وهذه الأحكام كلها مآلها إلى فقه الواقع، ويكون الأداء فيه من خلال مجاهدات العقل البشري والفعل البشري، فالأزمة الفكرية أو المعادلة الصعبة في العقل المسلم – إن صح التعبير – هي في الخلط بين النص الإلهي الخالد المطلق المعصوم المجرد عن حدود الزمن والمكان، وبين الاجتهاد البشري المظنون النسبي المحدد المحكوم بحدود الزمان والمكان وظروف الحال (١) .

وقال الشيخ محمد الغزالي: "من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن من جزء من العلاج " (٢) ، والأمة اليوم بأمس الحاجة إلى هذا العلاج.

فقه التنزيل:

يقصد به تنزيل العلم على الوقائع الجزئية أو المسائل المستجدة والحادثة، واشتهر في الزمن الماضي بالنوازل، واشتهر بلسان العصر باسم النظريات والظواهر.

وعرفه ابن القيم بأنه فهم الواجب في الواقع، وفهم الله تعالى الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، ثم يقول فمن بذل جهده استغفر وسعه في ذلك له أجرين أو أجر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله (٣) .

وهكذا يأتي ابن القيم ليطرح من جهته جدلية العلاقة بين الثابت والمتغير في النص الشرعي أو بين المقاصد الكلية الوقائع الجزئية، وليميز بين نوعين أو ثلاثة من مستويات الفقه، ففقه في نفس الأحكام الشرعية التكليفية، وفقه في نفس الوقائع وأحوال الناس ثم يذكر الثالثة فيقول: "ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للوقائع " (٤) .

لذا أنكر على من نفى هذا العلم أو رده فقال عنهم: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجروا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها من علمهم وعلم غيرها قطعاً: إنها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر (٥) .


(١) الشاكلة الثقافية لعمر عبيد حسنة، ص ٦٥.
(٢) الطريق من هنا، ص ١١٤.
(٣) إعلام الموقعين: ١ / ٦٩.
(٤) الطرق الحكمية، ص ٤.
(٥) الطرق الحكمية، ص ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>