ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهم منه أهل العرف والعلماء باللغة، ويكون بناء على تخريج مناط، أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض الآراء، ولو أن أصحابه سُئلوا عن تلك المسألة ربما يحملوا النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو.
ولا ينبغي لمخرج أن يرد حديثًا أو أثرًا اتفق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو وأصحابه، كرد حديث المصراة، وكإسقاط سهم ذوي القربى، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة ... وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال: مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: إن تتبع الآثار (السنن) لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب:
أعلاها: أن يحصل له من معرفة الأحكام بالفعل أبو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكن به من جواب المستفتين في الوقائع غالباً، بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، وتخص هذه المعرفة باسم الاجتهاد.
وهذا الاستعداد يحصل تارة بالإمعان في جمع الروايات وتتبعه الشاذة والفاذة منها – كما أشار إليه الإمام أحمد بن حنبل – مع ما لا ينفك منه العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام، وصاحب العلم بآثار السلف.
ويحصل تارة بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه من معرفة جملة صالحة من السنن والآثار، بحيث يعلم أن قوله لا يخالف الإجماع، وهذه طريقة أصحاب التخريج ... وإن لم يتكامل له الأدوات كما يتكامل للمجتهد، ولا يقبل فيه قضاء القاضي، ولا يجري فيه فتوى المفتين، وأن يترك بعض التخريجات التي سبق الناس إليها، إذا عرف عدم صحتها، ولهذا لم يزل العلماء – ممن لا يدعي الاجتهاد المطلق – يصنفون ويرتبون ويخرجون ويرجحون.