للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النازلة الثامنة – حكم القيام للناس:

سئل ابن رشد عن القيام للناس هل يباح أو يكره؟ وهل يستوي في حكمه الوالد والفقيه والصالح؟ وصار الأمر فيه اليوم إلى أنه إذا دخل شخص على قوم أو اجتاز بهم، فمن لم يقم له عده متهاوناً به منكراً عليه وحقد عليه، فما الحكم بهذا الاعتبار؟

فأجاب: لا بأس بقيام الإكرام والاحترام، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" (١) .

يعني سعد بن معاذ (٢) وكذلك لبني قريظة، فلا بأس بالقيام للوالدين والعلماء والصالحين، وأما في هذا الزمن فقد صار تركه مؤدياً إلى التباغض والتقاطع والتدابر، فينبغي أن يفعل رفعاً لهذا المحظور، لأن تركه قد صار وسيلة إلى هذا.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله)) (٣) ، فهذا لم يؤمر به لعينه، بل لكونه صار تركه وسيلة لهذه المفاسد في هذا الوقت، ولو قيل بوجوبه لمن يكن بعيداً، لأنه قد صار تركه إهانة واحتقاراً لمن جرت العادة بالقيام له، ولله أحكام تحدث عند أسباب لم تكن موجودة في الصدر الأول والله أعلم.

- وسئل عن القيام والإكرام والاحترام لمن ينبغي أن يفعل أو يترك من المسلمين والكفار، وحكم الألقاب وتنكيس الرؤوس في السلام؟

فأجاب: لا بأس بالقيام لمن يرجى خيره ويخاف شره من أهل الإسلام، وأما الكفار فلا يقام لأحد منهم، لأنا أمرنا بإهانتهم وإلزامهم بإظهار الصغار، وكيف لا ينفعل ذلك بمن يكذب الله ورسوله، فإن خفنا من شرهم ضرراً عظيماً فلا بأس من ذلك، لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز عند الإكراه، وأما إكرامهم بالألقاب الحسان فلا يجوز إلا لضرورة أو حاجة ماسة، وينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجراً عن كفرهم وفسقهم وغيرة لله عز وجل، وما يفعله الناس من تنكيس الرؤوس، فإن انتهى إلى حد أقل الركوع فلا يفعل، كما لا يفعل السجود لغير الله عز وجل، ولا بأس بما قصر عن حد الركوع لمن يكرم من أهل الإسلام، وإذا تأذى مسلم أمرنا بإكرامه بترك القيام، والأولى أن يقام له، فإن تأذيه بذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وكذلك التلقيب بما لا بأس به من الألقاب (٤) .


(١) رواه البخاري عن أبي سعيد في كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم "رقم (٦٢٦٢) .
(٢) هو سعيد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج، اسمه عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، أمه كبشة بنت رافع، لها صحبة. أسلم على يد مصعب بن عمير، شهد بدراً وأحداً والخندق، ورمي فيه سهم فعاش بعد ذلك شهراً ثم انتقض جرحه فمات منه سنة (٥ هجرية) ؛ (ابن الأثير، أسد الغابة: ٢ / ٤٦١؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب، ص ٤٢٠) .
(٣) رواه البخاري عن أنس بن مالك في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم (٦٠٥٦٥) ؛ أبو داوود في كتاب الأدب برقم (٤٩١٠) .
(٤) الونشريسي، المعيار المعرب: ١٢ / ٣٢٠ - ٣٢١

<<  <  ج: ص:  >  >>