للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أشرعت فتاوى الصحابة أبواباً عظيمة للتابعين ومن تبعهم بإحسان بينت المنهج السديد والطريق الملحّب لكيفية تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فسلك سبيلهم أئمة أعلام ساروا على دربهم وانسابوا في سربهم. ومر الزمان واتسعت الحادثات وتكاثرت الفتاوى وتنوعت الردود وتعددت المذاهب، فمن مقتف لخطا الرعيل الأول شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وقد سميت هذه المدرسة بمدرسة أهل الحديث أو أهل الأثر. ومنهم من توسع في الفهم والتأويل وافترع أبكار المسائل، وولد النوازل فأعمل رأيه وركب مطية الاستنباط، ووسع جيوبه وجر ذيوله، وهذه المدرسة تسمى بمدرسة الرأي. بالإضافة إلى أن كلتا المدرستين كان منها من أخذ بنصيب من أساليب ومفاهيم المدرسة الأخرى، حتى نشأت أصول تجمع بين الأثر والرأي ووضعت ضوابط الاستنباط، فكانت رسالة الشافعي في أصول الفقه في أواخر القرن الثاني نتاج الجدل الدائر بين مدرسة الأثر ومدرسة الرأي، وخطوة عظيمة نحو تأصيل التعامل مع النصوص وإقامة ميزان للاستدلال، ومع أن مدرسة الرأي تأخرت طويلاً في تقديم نظرتها الخاصة لتظهر في القرن الرابع مع أبي الحسن الكرخي والجصاص، فكانت إضافة مفيدة وفرت قاعدة للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فكانت كتب أصول الفقه التي ألفت في القرون اللاحقة ميداناً للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فقد ألف الساعاتي البغدادي (٦٩٤هـ) كتابه بديع النظام الجامع بين كتاب البزدوي والأحكام للآمدي وكانت أسس الفتوى وصفات المفتي تشغل حيزاً لا بأس به في مؤلفات هذه المدارس.

فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم، ولهذا ورد الوعيد، ففي حديث الدارمي عن عبيد الله ابن جعفر مرسلاً: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) .

والفتوى أعم من الحكم، إذ أن الأحكام قسمان: منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلا الفتيا (١) .

أما القسم الثاني فهو العبادات والمشار إليها بأمور الآخرة، وقد بين القرافي خير بيان في الفرق بين قاعدة الفتوى وبين قاعدة الحكم، فالفتوى تدخل في الأحكام الاعتقادية، وتدخل في الأحكام العملية جميعها من عبادات ومعاملات وعقوبات وأنكحة، وتدخل في الأحكام التكليفية من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات، وتدخل في الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد (٢) .

الفرق بين علم الفقه وعلم الفتوى والقضاء:

إن علم الفتوى والقضاء أخص من علم الفقه، وقد أوضح ذلك الإمام ابن عرفة، حيث قال: "علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه، لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات، فحال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بها أشق وأخص، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكامنة فيها، فيلغى طريدها ويعمل معتبرها " (٣) .


(١) المنجور، ص ٦١٦.
(٢) الفروق للقرافي: ٤ / ٤٨ وما بعدها.
(٣) التسولي: ١ / ١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>