للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتحقيق المناط لا ينقطع فيه الاجتهاد إذ لا يمكن التكليف به، كما قال الشاطبي، وأمثلته كثيرة وهي التي ركز عليها الفقهاء (١) .

وقال الشاطبي: "الاجتهاد على ضربين؛ أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف بين الأمة في قبلوه، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله " (٢) .

فمن هو المفتي؟

قال في الدر المختار: "المفتي عند الأصوليين هو المجتهد؛ أما من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، وفتواه ليست بفتوى بل هو ناقل" (٣) .

وأصل المفتي في اصطلاح علماء الأصول – كما في تحرير الكمال – هو المجتهد المطلق وهو الفقيه. قال الصيرافي: هو موضوع لمن قام الناس بأمر دينهم وعلم عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. وقال – أي السمعاني -: هو من استكمل فيه ثلاثة شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل.

ولكن بعض العلماء في العصور المتأخرة عزفوا عن اشتراط الاجتهاد في الفتوى؛ فقال السبكي: فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق مراتب؛ إحداها: أن يصل إلى درجة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقدير مذهب إمام معين ونصوصه أصولاً يستنبط منها، نحو ما يفعل بنصوص الشارع، وهذه صفة أصحاب الوجوه، والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء، وأنت ترى علماء المذهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد من الفتوى أو منعوا هم أنفسهم منها؟

- الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقديره، غير أنه لم يرتضِ في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك وقد كانوا يفتون ويخرجون، وما زال العلماء، يتدرجون حتى قال المازري في كتاب الأقضية: الذي يفتي في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها، وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب، وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها، وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب مالك في كثير من رواياتهم، فهذا لعدم النظر يقتصر على نقله على المذهب.

ولكنهم نزلوا درجات أخرى لعموم الجهل، فاكتفوا بمعرفة تقييد مطلقات روايات المذهب، بأن تكون المسألة موجودة في التوضيح أو في ابن عبد السلام، كما يقول الحطاب وقد أشار في مراقي السعود إلى ذلك بقوله: بذل الفقيه الوسع أن يحصل ظناً بأن ذاك حتم مثلاً فذاك للمجتهد الرديف. قال في شرحه: يعني أن الفقيه والمجتهد مترادف في عرف أهل الأصول، والفقيه في عرف الفقهاء من تجوز له الفتوى من مجتهد ومقلد. ومن تجوز له الفتوى المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد مجتهد مذهب كان أو مجتهد فتيا، وغير المجتهد إذا كان عالماً بالأصول أو جاهلاً لها بشرطه الآتي (٤) .

- وبعد أن استكمل أوصاف المجتهد المطلق الذي هو أول من تجوز له الفتوى في قائمة المفتين شرع في بيان الآخرين بقوله

: هذا هو المطلق والمقيد

منسفل الرتبة عنه يوجد

ملتزم أصول ذاك المطلق

فليس يعدوها على المحقق

مجتهد المذهب من أصوله

منصوصه أم لا حوى منقوله

وشرطه التخريج للأحكام

على نصوص ذلك الإمام

مجتهد الفتوى الذي يرجح

قولاً على قول وذاك أرجح

لجاهل الأصول أن يفتي بما

نقل مستوفي فقط وأمما

(٥)


(١) نشر البنود: ٢ / ٢٠٨.
(٢) الموافقات: ٤ / ٨٩ – ٩٠.
(٣) الدر المختار: ٤ / ٣٠٦.
(٤) نشر البنود ٢ / ٣١٥.
(٥) نشر البنود: ٢ / ٣٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>