للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ذلك حال تطور نظرتهم إلى المفتي من مجتهد مطلق إلى مجتهد مذهب أو فتوى، إلى فقيه النفس حافظ متبحر في الاطلاع على الروايات، عارف بتخصيص عمومها وتقييد مطلقها إلى من يكتفي بحفظ ذلك من كتاب يوثق به.

وهكذا نجد أن الفتاوى تغيرت مرجعيتها من حيث صفة القائم عليها في كونه مجتهداً مطلقاً في الصدر الأول، إلى مقلد تتفاوت رتبته بحسب الزمان، وكذلك من حيث الدليل المعتمد الذي كان كتاباً وسنة أو قياساً، إلى أن أصبح الدليل أقوال الإمام المقلد وقواعده، أو التخريج على أقواله ورواياته.

ونعني بالتخريج: القول في المسألة التي لا نص فيها للإمام، بمثل قوله في مسألة تساويها إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها.

قال في المراقي:

إن لم يكن لنحو مالك ألف

قول بذي وفي نظيرها عرف

فذلك القول هو المخرج

وقيل في الأخذ عليه حرج

وظهرت في كل مذهب إلى جانب كتب الفقه كتب الفتاوى والنوازل؛ كفتاوى السبكي وابن الصلاح في مذهب الشافعي والفتاوى الهندية وفتاوى قاضيخانه في المذهب الحنفي، وقد ذكر في (كشف الظنون) أكثر من مائة وخمسين تأليفاً من الفتاوى وفي المذهب المالكي كفتاوى ابن رشد والبرزلي وغيرهما. وسنتعرض بإشارة خاصة إليها، وإلى المذهب الحنبلي مع فتاوى ابن تيمية.

- وقد حاولت مختلف المذاهب ضبط الفتاوى عندما لم تعد من خصائص المجتهد المطلق، والفتاوى قد لا تكون نتيجة نازلة ولكنها تكون نتيجة توليد للمسائل.

وقد كان من السلف من يكره افتراض المسائل وتوليد الوقائع، وقد كانوا يسألون عن المسألة هل نزلت؟

وكان مالك يكره ذلك ويكره أرأيت؟

إلا أن أصحاب أبي حنيفة سلكوا منحى آخر في افتراض الصور الذهنية، وهكذا وسعوا جيوب الفتوى، وجروا ذيولها على مسائل وقعت وأخرى لم تقع، وربما لم تقع أبداً، إلا أنهم أثروا الفقه بتأليفهم ما سموه مسائل الأصول المروية عن الإمام وأصحابه، وقد تضمنت كتب محمد بن الحسن الستة: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الكبير والصغير، وهي التي تعرف بظاهر الرواية. وبقيت مسائل النوادر التي ليست في الكتب الستة، ولكنها في غيرها وهناك مسائل الفتاوى والواقعات التي عرضت لعلماء الأحناف من غير الطبقة الأولى، وهي ما استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهم وهلم جرًّا وهم كثيرون.

- فمن أصحابهما مثلاً: عصام وابن رستم ومحمد بن سماعة، وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت، وأول كتاب جمع في فتواهم – فيما بلغنا – كتاب (النوازل) للفقيه أبي الليث السمرقندي، ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخر كمجموع النوازل والواقعات للناطفي (١) .

وحاول الأحناف ضبط الفتاوى، فقال صاحب تنوير الأبصار، "يفتى بقول أبي حنيفة على الإطلاق"، علق عليه ابن عابدين بقوله: أي سواء كان معه أحد أصحابه أو انفرد، لكن سيأتي قبيل الفصل أوالفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لزيادة تجربته. وعلق على قول صاحب الدر بقوله: (وهو الأصح) قائلاً: ما يأتي عن الحاوي وفي جامع الفصولين من أنه لو معه أحد صاحبيه أخذ بقوله، وإن خالفاه قيل كذلك، وقيل يخير إلا فيما كان الاختلاف بحسب تغير الزمان؛ كالحكم بظاهر العدالة وفيما أجمع المتأخرون عليه؛ كالمزارعة والمعاملة فيختار قولهما (٢) .


(١) حاشية ابن عابدين باختصار وحذف: ١ / ٤٧.
(٢) تنوير الأبصار: ٤ / ٣٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>