للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء.

مع أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها، فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً، كما قال في مراقي السعود:

وليس في فتواه مفت يتبع

إن لم يضف للدين والعلم الورع

ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه، وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.

-آداب الفتيا:

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لاينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.

الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس (١) .

-وأشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تدرج في الضوابط:

إياك ومفهومات المدونة، فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنة، فما ظنك بكلام الناس .... إلى قوله ... ولا تفتِ إلى بالنص إلا أن تكون عارفاً بوجوه التعليل، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه، إما مطلقاً أو على مذهب إمام من العدوة، ولا يغرك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء واحفظ الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول (٢) .

والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن، على أصحابها أن يصنفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس، وعندما يقلد قولاً عليه أن يقلد القول الصحيح، وعندما يقلد الضعيف عليه أن يبين سبب ذلك.

إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين. انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء، سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة، عندما أجازوا قضاء المقلد وفتواه بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط، أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية. كما أن الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي، وهي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك، فهذه تبيح المحرم، ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكن الضرورة التي تعم الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء.

٢- الطريق الثاني:

هو البحث عن القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحاكمهم وفتاويهم في مختلف العصور، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل، وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل، وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع وجلب المصالح ودرء المفاسد ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين والنظر في المآلات، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وسد الذرائع وتحكيم العرف، وتحقيق المناط، والإذن في العقود، وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه نصاً أو قياساً " (٣) .

وقد قال الشاطبي: "إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه ".


(١) إعلام الموقعين: ٤ / ١٩٩.
(٢) المعيار: ٦ / ٣٧٧.
(٣) الفتاوى: ٢٩ / ١٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>