وهذا الموضوع أيضا طرحه على هذا المستوى الذي تتعد فيه الاتجاهات المذهبية كما تلاحظون أنه غطيت المذاهب السبعة تقريبًا في عرض ما لديها يحقق جانبا من جوانب الوحدة العلمية التي طرح أمرها في اليوم الأول، وأن من أسباب تحقيق هذه الوحدة أن يطلع أهل كل مذهب أصحاب المذهب الآخر على ما عندهم من خصوصيات، وهذه الخصوصيات تتأكد في موضوع الترجيح والإفتاء.
الفقه العملي يختلف عن المسائل الفقهية – كما أشرت – لأن المسائل الفقهية لا يشترط أن تكون هناك حادثة أو واقعة، وأما الفتوى فلابد وأن تنصب على حادثة وواقعة وعلى حالة شخص يستفتى أو جهة تستفتي. وبهذا يختلف الفقه العملي عن الفقه التعليمي.
وبهذه المناسبة فإن هناك مستويات كثيرة من عرض الفقه الإسلامي، فهناك الكتب المدونة المعروفة، وهناك كتب الفتاوى التي تولى الأهمية للراجح من أقوال المذهب بحيث إن أحد الكتب الفقهية في المذاهب الحنفي ليس فيه أي فتوى من الفتاوى ولكنه سمي بـ (الفتاوى الهندية) لأنه تضمن ما يختار للفتوى وما هو أرجح من غيره، وكان هذا الكتاب عملًا جماعيًّا كما يعلم المختصون أنه كان بعناية من ملك من ملوك الهند المسلمين وهو:(أورنق ذيب) الذي كان يسمى: (عالم كبير) أي فاتح العالم لاهتمامه بنشر الدعوة الإسلامي في تلك القارة، هذا العالم جمع عددا من علماء الهند وأوجد تحت أيديهم مكتبة كبيرة، فاستخلصوا منها الراجح في المذهب الحنفي، وكان من ذلك الفتاوى الهندية.
في المذاهب الأخرى نجد موضوع العمل وخصوصا عند المالكية، فهناك العمل الفاسي بانلسبة لأهل فاس، وعمل أهل القيروان، وغير ذلك والعمل في الحقيقة يعتبر نوعا مبتكرا في تدوين الفقه لأنه يهتم بمعالجة الواقع العملي، فقد يكون فيه ترجيح لبعض الأقوال الضعيفة، ويكون فيه معالجة مباشرة لهذه الوقائع، والعمل لا يقترن بسلطة إلزامية وإنما هو التزام من علماء المذاهب أو علماء المذهب بأنهم يلتزمون ما رشح للعمل وأصبح يشكل سوابق تشبه السوابق القضائية التي يتعاقب عليها القضاة فتخرج منه مبادئ وقواعد تحترم بالالتزام.
ولكن هناك شيء آخر يحصل بالإلزام وهذا نجده في المذهب الحنفي حينما أبو السعود العمادي أحد كبار المفتين في الدولة العثمانية اختار من المذهب الحنفي كثيرا من المسائل التي تستحق أن ترجح ويعمل بها وسماها (المعروضات) ، وعرضها على السلطان في ذلك الزمن فقرنها بالإلزام وأصبحت ملزمة، وكأنها قانون مستمد من الفقه، وهذه المعروضات – معروضات أبي السعود – كثيرا ما ينقل منها العلامة ابن عابدين ويلتزم بها، وكان ينوه بأنها ملزمة لكل من جاء بعد ذلك السلطان، لأنه كما هو معلوم الأمر الذي يصدر من ولي الأمر يتغير أو يموت بموته ولابد لإلغائه أو تعديله من ولي أمر لاحق له.
فهذه المختارات الرسمية للعمل أيضا تعبر ميزة وتعبر أمرا مهما في الفقه العملي. وهذا يدعونا إلى الاهتمام بكتب الفتاوى. فكتب الفتاوى ما نشر منها إلا القليل، وكثير مما نشر منها الفتاوى فيه موجزة، ولكن هناك كتب للفتاوى فيها بحوث وبها مناقشات، وقد نشر بعض إخوانا شيئا منها، فالدكتور علي القره داغي نشر (الغاية القصوى) فتاوى في غاية السعة والاهتمام، وأخونا الشيخ نظام يعقوبي يعني الآن بنشر فتاوى الإمام الغزالي، وهي فتاوى في غاية الروعة، لأنها تقدم مبادئ لا نجدها في كتب الغزالي المطولة.