بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
هذا المضوع الذي بحث في هذه الصبيحة كنت حفيا به منتظرا لما يأتي به السادة الفقهاء، ذلك أنه موضوع ينطلق من الماضي إلى المستقبل ويشمل بين جناحيه الفقه الإسلامي، في جميع مراحله ولا يقف عند الحد وإنما يستمر إلى مابعد، إذ أن العنوان:(سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، فإذا بحثت النوازل والفتاوى والعمل الفقهي وعزل ذلك عن تمام العنوان فمعنى ذلك أننا ابتعدنا عن الموضوع ولم نحقق الغاية التي من أجلها وضع هذا البحث باعتبار أنه يواجه حلا لصعوبة من الصعوبات تصور الواضعون لهذا أن بحثها سيساعد الفقهاء عندما يواجهون القضايا المعاصرة.
وهذه القضية أو كيف أن الفقه يتناول الواقع. أعتقد أن أول من اعتنى بذلك هو الذي خط لجميع فقهاء العالم الإسلامي، المنهج أعني به مالك بن أنس – رضي الله تعالى عنه – في كتابه (الموطأ) . فمالك في كتابه الموطأ وثق الحديث ولم يكن مقتصرا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أضاف إليه فتوى وأضاف فيه عملا، ولذلك تجده مثلا في حديث خيار المجلس بعد أن وثق الحديث يقول:"وليس عندنا في هذا حد معلوم ولا أمر معمول به عندنا "، فهو لا يطعن في الحديث ويوثقه ويبين أنه لا يعمل به في المدينة، فالرباط بين العمل وبين النصوص ظهر كبادرة عن مالك، كما أن تقسيم أبواب الفقه إلى تلك الأبواب هي منة طوقها مالك أعناق علماء الإسلام إذ ساروا على دربه، وكذلك كتب الحديث التي جاءت حسب الأبواب إلى أن جاء الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله تعالى عنه – فنهج نهجا آخر في توثيق الحديث.
فإذن القضية الكبرى وهي أن كيف الفقه له طرق في تدوينه؟ أولا: نجد طريقة الفقه المجرد الذي يعطي الأركان والشروط والأحكام، وهذا ما جرى عليه الفقهاء إما في المختصرات وإما في المطولات، وعندنا فقه آخر، وهو أنه يأخذ هذا الفقه الذي وجد في المذهب، فيقارن بين مذهب ومذهب ويستدل له بما يرى أنه جدير لتأييد هذا المذهب على المذهب الآخر، ولبيان وجه الحق حسبما اجتهد فيه.
وهذا أمر آخر. ثم ظهر أمر جديد بعد ذلك وهو كتب الأصول التي بينت للفقهاء كيف كان الفقهاء من قبل يجتهدون وكيف كانوا يأخذون الأدلة. ثم ظهر أمر آخر وهي كتب المقاصد التي بينت كيف يرتبط نظر الفقيه مع النص ومع الواقع إلى أمر جديد وهو المقصد الشرعي العام الذي هو أمر يقيني. ثم إن الفقهاء العلماء حقا كانت تعرض عليهم القضايا، فإذا هم يعملون هذه الأصول الأربعة ويفتون بها في الوقائع التي تعرض عليهم، فكان عرضهم – رضي الله عنهم – عرضا تجد فيه المقصد الشرعي وتجد فيه الأصل أنه عام أو أنه خاص أو خصص، وتجد فيه القول الفقهي لصاحب الرأي، وتجد فيه الإشارة إلى القول المخالف، والترجيح. فكانت كتب الفتاوى أو كتب النوازل كأنها جمعت كل التوجهات الفقهية ووثقتها معا في قضايا جزئية. هذا منهج عندما تعرض علينا القضايا كيف نستفيد من هذا المنهج، ثم كيف نستفيد مما وصل إليه الفقهاء ودونه في كتب النوازل.