للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم يقول:

(نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الإرث (١) ، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفَقَد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقًا. فأدرك الإنسان منذ هذه اللحظة أنه هو صانع تاريخه، بل إن العمل في هذا السياق واجب، الأمر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار.

انطلقت الحداثة - إذن - عندما أعلن الإنسان انعتاقه من تحكُّم النظام الكوني. وارتأى - وأشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي - أن هذه القطيعة كانت أيضًا لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم - في مجال إنماء قوى الإنتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية - ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفًا للتحرر والتقدم) . ثم يقول: (ليس هناك تعريف آخر للحداثة - في رأيي - غير هذه القطيعة الفلسفية) .

ومما يزيد الأمر وضوحًا تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني وخاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية (دانيال هير فيوليجيه) ، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر أن الحداثة كانت تتصور أنها مسار تاريخي طويل للتحرر من إسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة أبعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الإنسان ينظر إلى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.

وثانيها: أن جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من إطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته؛ كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرًا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد أن يضفيه على العالم.


(١) يقصد بذلك: القدرة الإلهية والغيب، وهو ما سماه أيضًا قبل قليل: الأحكام الميتافيزيقية المضمرة!.

<<  <  ج: ص:  >  >>