للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه الاستقلالية من شأنها - دون أدنى شك - أن تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.

أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة، وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاًّ من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث - بتأثير العلمانية - تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيدًا عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها أنصار الحداثة قيودًا تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم (١) . وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية؛ أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الإزاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الإزاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات (٢) .

* * *

وحين نعيد النظر فيما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل إلى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:

أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم، وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) (٣) . ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.

وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر إلى تأليه العقل، وإنكار الغيب، ونفي الوحي، وعُدَّا من الخرافات، حتى إنهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة) ، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية. ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو إلى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح إذا حُصِر في القطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.

وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيدًا عن تصديق تعاليم الدين وأحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.


(١) موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام ٢/٤/١٩٩٨م.
(٢) موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام ٢/٤/١٩٩٨م.
(٣) جابر عصفور، تعارضات الحداثة، مجلة فصول، العدد الأول، أكتوبر ١٩٨٠م.

<<  <  ج: ص:  >  >>