للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد قيل عن الحداثة: إن لها - بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. - وجهًا مشرقًا نتطلع إليه، وجانبًا مظلمًا نتجاهله. وإن ما هو إيجابي وتقدمي نهضوي في الحداثة هو الذي أبرز على مدى عقود مضت، ولكن التعتيم على الجوانب السلبية للظاهرة نفسها أصبح الآن غير مقبول. وقد نُظِر إلى سلبيات الحداثة في المجتمع والأفكار والقيم خلال عقود التنمية في العالم الثالث - والعالم العربي منه - في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على أنها مشكلات انتقالية ستتغلب عليها المجتمعات التقليدية في مسيرتها التاريخية نحو الحداثة! ومن هنا جاء هذا الاندفاع نحو التقدم و (المعاصرة) ، بسبب رؤية متكاملة للحداثة تتجاهل ما هو مضر وسيئ منها (١) .

ويسمى هذا النمط من التفكير القائم على مفهوم الفردية بالفكر الرأسمالي. وهو فكر لا ينكر حتى أشد أنصاره المساوئ التي أفضى إليها، وقد دفعت تلك المساوئ بآخرين إلى نظرية جديدة جاءت رد فعل على مثالب الفكر الرأسمالي، هي النظرية الشيوعية. ومن يُمعِن النظر في الفكر الشيوعي يجد أن أصحابه قلبوا المفاهيم الرأسمالية، فذهبوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار: نزعوا وسائل الإنتاج من يد الفرد ليضعوها في يد الدولة، وحولوا المجتمع إلى حالة المركزية الشديدة، وحرموا الفرد من أبسط حقوقه ومقومات إنسانيته، فجردوه من الحرية، ومن الملكية التي تكفل له حقًا خاصًا في أي أمر حتى في أولاده (٢) .

* * *

وكان لابد أن تظهر اتجاهات فكرية ومواقف ومذاهب تحُدّ من هذا الاندفاع الذي انجرفت إليه الحداثة في مجموعها أو في بعض عناصرها، مع التمسك بجوهرها وأفكارها الأساسية، ولقد أصبح واضحًا أن الحداثة - من حيث هي منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، وأسلوب في البحث والتعليل والتحليل - قد حققت خلال القرون الأربعة الأخيرة مكاسب للإنسانية أوصلتها إلى هذا التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع، ولكن الذي لا شك فيه أنها قد أخفقت في جوانب متعددة من الحياة، وكانت بعض عناصرها السبب في كوارث حاقت بالبشرية، أشرنا إلى بعضها، مثل: تلوث البيئة، وتدمير الطبيعة، وانتشار المجاعات والأمراض، ونشوب الحروب العالمية والمحلية، والغلو في الفردية والمادية، وتفكك الأسرة، والإسراف في شعور التعالي الغربي، وحرص الغرب - وخاصة الدولة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية - على فرض أنظمته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأنماط حياته ونظرته إلى التعامل مع مختلف القضايا، على الثقافات الأخرى وطمس خصوصيات تلك الثقافات، وهو ما قد يجعل العولمة الحالية إحدى نتائج الحداثة.


(١) انظر: فادي إسماعيل، مقالة في جريدة الحياة ٢٧/٧/١٩٩٨، ص١٣.
(٢) انظر: مقالة الدكتور مروان قبلان المُشار إليها سابقًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>