للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد..

فما هو موقف الإسلام من كل ما تقدم؟ وكيف يكون الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين اللذين يكادان يكونان سؤالًا واحدًا، لابد لنا من أن نعود بذاكرتنا إلى عصور ازدهار العلم الإسلامي، وانتشار الحضارة الإسلامية، وحركتهما في التوسع والتأثير في أوروبا، وخاصة منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ، وما تلاه من عصور حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) . وهو ما أشرنا إلى طرف منه عند حديثنا قبل صفحات عن حركات الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، وسنعود إليه بعد قليل. وربما كانت أوضح السبل إلى تلمس الإجابة عن السؤالين السابقين أن نقف عند كل عنصر من عناصر الحداثة لنتحدث عن موقف الإسلام منه وعلاقة المسلمين به.

فالعنصر الأول، وهو حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، عنصر يتضمن مبادئ قررها الإسلام تقريرًا واضحًا لا لبس فيه، وسار على هديها العلماء والمفكرون المسلمون، وحسبنا أن نشير في هذا المجال إلى أن الإسلام قد أباح حرية الخطأ، وجعله حقًا من حقوق المسلمين في بحثهم عن الحقيقة، إذا خلصت نياتهم وكان الحق رائدهم ولم يتعمدوا ذلك الخطأ للتضليل. ومن هنا كان دعاء المسلمين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: ٥] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان))

(١) .

ولم يقتصر الإسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه، إنما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق ويطلب العلم، فجعل له حينئذ أجرًا واحدًا وجعل للمصيب أجرين (٢) .

وتدخل في هذا الباب آيات التسخير المتعددة في كتاب الله تعالى، وأجمعها وأشملها قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: ١٣] ، وهكذا انطلق علماء المسلمين (يتفكرون) و (يتدبرون) دون ما حرج ولا تزمت، لا يحول بينهم وبين ميدان من ميادين العلم حائل.


(١) حديث صحيح أخرجه من حديث ابن عباس: ابن ماجه (٢٠٤٥) ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) : ٢/٥٦، والدارقطني (٤٩٧) ، والحاكم: ٢/١٩٨، وابن حبان (١٤٩٨) . وروي من حديث أبي ذر، وثوبان، وابن عمر، وأبي بكرة، وأم الدرداء، كما بينه ابن رجب في (شرح الأربعين) ، ص٢٧٠ - ٢٧٢.
(٢) متفق عليه، وقال الخطابي: (إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط) ، السيد سابق، فقه السنة: ٣/٤١٠، دار الكتاب العربي، بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>