للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما موضوع (الشكل فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، فالفكر الإسلامي حافل بما يدل على أنه الرائد في هذا المضمار، وقد كان من منهج العلماء المسلمين الشك في الأمور إلى أن يقوم الدليل على صحتها أو بطلانها. ومن أمثلة ذلك ما نص عليه الجاحظ - بعد أن ذكر خبرًا غريبًا - قال (١) :

(ولم أكتب هذا لتقربه، ولكنها رواية أحببت أن تسمعها. ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه ... ) .

ومن أمثلة عدم التسليم بما أورده الآخرون من العلماء الأقدمين في كتبهم، وعدم تكرار أقوالهم على أنها من المسلم بصحتها، ووجوب إخضاعها للفحص والتمحيص والتثبت؛ ما ذكره الحسن بن الهيثم في قوله (٢) :

(الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته، فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق إليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحُسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس ... وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل. ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك، فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان، والواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقسير والشبه) .


(١) الحيوان: ١/٢٠٧، تحقيق عبد السلام هارون، مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولى.
(٢) كتاب (الشكوك على بَطليموس) ، ص٣ - ٤، تحقيق الدكتور عبد الحميد صبرة والدكتور نبيل الشهابي، مطبعة دار الكتب بمصر، ١٩٧١م.

<<  <  ج: ص:  >  >>