وحين نرجع إلى كتب تاريخ العلم؛ نجدها تذكر الحلقة اليونانية ثم تقفز إلى الحلقة الأوروبية في عصر النهضة، وتغفل - إما عمدًا وإما جهلًا - الحلقة الإسلامية، سوى إشارات في بعض تلك الكتب تضيع في ثناياها، ولا تضع جهود العلماء المسلمين في موضعها الصحيح من تاريخ العلم العالمي، وقد سقط في هذه الوهدة كثير من العرب والمسلمين من المؤرخين وأساتذة تاريخ العلوم، إلا نفرًا منهم لهم جهود في توضيح صورة تاريخ العلوم عند المسلمين وتتبع مسيرته، ولكن صوتهم لا يزال خافتًا إذا قيس بأصوات الآخرين.
وسأقتصر على مثل واحد يدل على ادعاء الأوربيين لأنفسهم جهود العلماء المسلمين في العلم وفي المنهج العلمي، فمما يقال دائمًا إن روجيه باكون - روجر بيكون - (Roger Baecon) يُعَدُّ منذ أمد بعيد، المؤسس للمنهج العلمي الذي يقوم على أن التجربة هي أساس البحث في العلوم الطبيعية. وقد ظل هذا الاعتقاد بأولوية هذا العالم إلى يومنا هذا، لكن مؤرخ المنطق العالم برانتل (C.Prantle) رفع صوته ضد هذا التيار من غير أن يكون مختصًا في العلوم الإسلامية، وقال:(إن روجيه باكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية من العرب) .
وقد استطاع بعض المختصين أمثال فيديمان (E.Wiedemann) وشرام (M.Schramm) أن يوضحوا بجلاء كبير مكانة العلماء المسلمين من تأسيس قانون التجربة والنظرية، وأثرهم الواضح في روجيه باكون (روجر بيكون) وليوناردو دافينشي (Leonardo da Vinci) وسواهم. واتضح بما لا يقبل الجدل أن مهمة العلماء المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها، وإنما اهتموا في الواقع بمسألة أن التجربة يجب أن تسبقها النظرية، وأنهم عملوا التجربة بهذا المعنى واسطة تستعمل باستمرار في أثناء البحث. وإن (فيديمان) يقول بكل صراحة: إن العرب كانوا سباقين إلى هذا الموضوع. بل إن ما توصل إليه (روجيه باكون) أقل بكثير مما كان موجودًا عند العلماء العرب القدماء.