فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية و (الحداثة) الحقيقية المؤمنة، التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا - سبحانه - لا تعمل بغير إرادته، وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعِمارتها، وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عنه مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه (الحداثة) الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني. ولذلك أحدث الإسلام التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى عن المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: ٨٣] ، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: ٢] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: ١٨٣ - ١٨٤] إلى غيرها من الآيات التي ترسم هذا المنهج القرآني.
ولا تستطيع أمة أن ترتقي في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير (الحداثة) بعناصرها التي ذكرناها. وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن (الحداثة) ، واقتبستها منهم أوروبا؛ تخلفوا وتقدمت.
فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها، تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن.
وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وأكثرنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات (١)
وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس (في مواجهة الحداثة) الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرَّغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف، وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أُقحِم عليها، ونرد إليها ما انتُزِعَ منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.
والحمد لله رب العالمين.
الدكتور ناصر الدين الأسد.
(١) لقد ظل المسلمون في غفلة عن هذا المنهج ومفرداته طوال قرون حتى نبهتهم عليه صدمة الاتصال بالحضارة الأوروبية منذ نحو قرنين، فتوالت الكتابة فيه والحديث عنه وإن لم يصبح جزءًا من حياتهم بعد.