هذا كله شرحته وذكرت ما ذهب إليه بعض العلماء لهذا الفكر الإسلامي وترجمات معاني القرآن الكريم، وقد ذكرت بعض الكتب لعلماء مسلمين كانت السبب في ظهور العلمانية وبزوغ حركات الإصلاح الديني حيث كانت العلمانية لا تعدو أن تكون ثورة على الكهنوت والكنيسة ورجال الدين، ولم تكن ثورة على الدين نفسه، وفرق بين الأمرين.
ثم بعد ذلك أنتم تعلمون أن كل شيء من حسن يدخله الشطط يفسد، فهذه كانت في بدايتها بهذا الحجم فقط، ثم بعد ذلك فسدت حتى وصل الأمر إلى واحد مثل نيتشه أن يقول: الآن مات الإله. فانتقلت العلمانية من ثورة على الإكليروس والكهنوت والكنيسة وحدها إلى الكفر وإلى الإلحاد. الأولى لا اعتراض لنا عليها لأنه ليس عندنا إكليروس ولا كنيسة. الثانية يبرأ منها كل مسلم مؤمن.
هذا هو تفسير هذا الكلام. ولذا قلت: إن آخر الكلام يوضحه أوله. وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعًا دونما احتكار لطبقة دون غيرها تعدل فيهما وتُغير وتفسر وتشرح وتمنح وتحرم، فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية والحداثة الحقيقية المؤمنة التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا سبحانه، لا تعمل بغير إرادته لأنهم هم قالوا بعد ذلك: إذا توافر السبب لابد أن يؤدي إلى نتيجة، ونحن بطبيعة الحال لا نقف هذا الموقف وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعمارتها وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عن مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه الحداثة الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني، لأن الحداثة كما يقول كثير من الأوروبيين انتهت إلى كوارث، كوارث بيئية، كوارث طبيعية، وكوارث بشرية، وهذا كله مذكور في التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: ٨٣] ، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: ٢] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: ١٨٣ - ١٨٤] .