ولا تستطيع أمة أن ترقى في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير الحداثة بعناصرها التي ذكرناها، وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن الحداثة المؤمنة واقتبستها منهم أوروبا وشوهتها بعد ذلك تخلفوا هم وتقدمت هي. فبغير حرية الرأي والتعبير - هذه العناصر الأصلية للحداثة - وحرية الاجتهاد والبحث العلمي - وأنا أذهب أن الاجتهاد عندنا هو الذي أخذوه وسموه البحث العلمي - وحينما تركنا الاجتهاد ولا أقول أغلقنا بابه تخلفنا في باب الاجتهاد وتقدموا في البحث العلمي. تخلفنا نحن وتقدموا هم. فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها - لأنني ذكرت قبل قليل أنهم هم ألَّهوا العلم وجعلوه إلهًا بدل الإله - تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن. وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحن نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وبعضنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات.
وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس في مواجهة الحداثة الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أقحم عليها ونرد إليها ما انتزع منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.
والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.