قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم، أراضيهم سهلة واسعة، وأخيافهم رابية مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، صنع أيدي المسلمين، ومدنهم كانت آمنة مؤسسة على أمتن قواعد العمران، تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب.
وقد كان المسلمون - بأصول دينهم - أنورَ عقلًا، وأنبه ذهنًا، وأكثر استعدادًا لنيل الكمالات الإنسانية، وأقرب إلى الاستقامة في السلوك والأخلاق، لما بينهم من إخاء مؤزر بمناطق العقائد، وبما ساخ في نفوسهم من جذور المعارف التي أرشدهم إليها دينهم، كانوا يعدون أنفسهم أولى الناس بالعلم، وأجدرهم بالفضل، ولكنهم حين غاضت كمالاتهم ولم يعد لها من باقية تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلم يهتدوا بآياته، ولا أقاموا العدل أو ساسوا مجتمعاتهم بأحكامه، كما صدفوا عن سنة رسولهم فلم يأخذوا بأحاديثه، ولم ينتفعوا بحكمته، فأصابهم ما أصابهم من الضعف والوهن، ومن الاختلال الكبير في حياتهم.
وظهرت الفتن، وانتشرت البدع، واستشرت الغواية والجهالة فيهم، ووقفوا في سيرهم الحضاري، بل تأخروا عن غيرهم في المعارف والصنائع، بعد أن كانوا أئمة العالم فيها والمتفوقين بها، وطمع فيهم الأباعد وكادوا لهم كيدًا، وغزوا أراضيهم فنقصوها من أطرافها، ومزقوا حواشيها حتى لم يعد لهم في شؤونهم حل ولا عقد، لا يستشارون في مصالحهم، ولا أثر لإرادتهم في منافعهم العمومية.