وبممارسة هذا المنهج في القضايا التي ذكرها الأئمة من قبل، وبحثوها في مدوناتهم، أو في القضايا المستجدة التي تنتظر فتاوى مجمعية، تكون القرارات المتخذة بشأنها صورة للاجتهاد الجماعي، وطريقًا إلى توحيد المنازع والاتجاهات الفقهية، فهي تبرز أولًا حقيقة التشريع الإسلامي من حيث عمومه وسعته، وصلاحيته لكل زمان ومكان وخلوده، وتذكر من أدلة الكتاب والسنة ما يعتبر أساسًا للأحكام، وربما لمسنا في هذا المجال مدى اعتبار الإجماع والقياس في الأحكام الاجتهادية، وأهمية الاعتماد على القواعد العامة الشرعية المتوافرة في كل مذهب، وفي كل مدرسة من المدارس الفقهية الاجتهادية.
وإنا لندرك ثانيًا من وراء هذا العمل الفقهي الاجتهادي مسايرة الفقه الإسلامي للشريعة وارتباطه بها، بحكم أنه جزء منها ومتفرع عن قواعدها، ونراه يلامس مسائل العبادات وقواعد السلوك، لما لهما من أهمية كبيرة في الدين الإسلامي، كما يتناول بالتقعيد والتفريع وضبط الأحكام في القضايا المتعلقة بالفرد والأسرة والمجتمع، وما يعتبر من ذلك قانونًا إسلاميًّا للأحوال الشخصية، وللقضايا المدنية والجزائية ما يتصل منها بالظروف العادية والظروف الطارئة، وما له ارتباط بالمعاملات والسير والسياسة الشرعية في السلم والحرب. وكذلك ما يتبع هذا من الطرق الإجرائية كالشروط والوثائق والمحاضر والسجلات، ما امتد إليه تشريع الأحكام، كالتوسع في مسائل الوقف وتصرفات المأذون وأشباهها. وإن الفقه الإسلامي بذلك لأثرى فقه عرفته الإنسانية، ترجمت نصوصه، واقتبست منه التشريعات والقوانين الوضعية كثيرًا من النظريات والقواعد، وهو لا يزيد مع الأيام إلا نموًّا وجدة ببحثه لأحدث الصور، وبخاصة في مجال المعاملات والشؤون الاقتصادية وقضايا الاجتماع ومسائل الطب الوقائي والعلاجي ونحوها.
ولم يُعدَّ الفقه الإسلامي في فترة محصورة معينة واحدة، بل هو امتداد وتطور للنظر، يشمل كل العصور المتعاقبة التي ظهر فيها المجتهدون في الأحكام، من الفقهاء المبرزين من بعد وفاة رسول الله وانتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى حتى اليوم.