للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد حدثت في هذا العصر تطورات عجيبة، واختلفت مناهج السلوك في الحياة وتغيرت، وظهر من الاختراعات والمبتكرات التي يحتاج الإنسان إلى استخدامها والانتفاع بها ما يُذهل العقل، وشهدت علوم الاقتصاد والطب ونحوها تقدمًا كبيرًا في المعاملات مع الشركات، وفي طريقة العلاج والمداواة، بما لا يخضع في الغالب لروح الشريعة وأصولها، ومن ثم نجد دعوة ملحة من المسلمين عامة، ومن الدول الإسلامية، تنادي ببحث هذه القضايا المستجدة، وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة لها.

ولا جدال في كون الإسلام قد طالب كل قادر على النظر والاجتهاد، وهم بحمد الله كثر، ضمتهم مراكز البحوث والمجامع الفقهية، ببذل الوسع واستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية مع لزوم الاحتياط والتثبت من صحة الأدلة الفقهية والاستدلال بها، والانتهاء بعد الدرس إلى الحد الذي يفيد الظن القوي بإصابة حكم الله تعالى في تلك القضايا.

والذي يمكن الجزم به من الآن هو أن الشريعة الإسلامية المرنة الطيعة مبنية أساسًا على الإباحة الأصلية، ومن ثم رأيناها في العصور الأولى وعند بناء الحضارة الإسلامية العالمية قد تأثرت بكل ألوان الثقافات التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي، فلم تحاربها، ولا قطعت الصلة بها، ولكنها تجاوبت معها تجاوبًا أبقى على المفيد منها، وأخضعت ما دونه إلى الأصول والمبادئ الشرعية التي لا يجوز تجاوزها، لكونها المثبتة لهويتنا والمميزة لملتنا.

وأهل الاجتهاد عندنا - كما وصفهم العلامة الشيخ يس سويلم طه - هم الذين استنارت عقولهم وبصائرهم بهدي الكتاب والسنة، وامتلأت قلوبهم بالخوف من القول في دين الله بغير حجة، وعرفوا بالرسوخ العلمي، وسلامة الاعتقاد، واستقامة التفكير، واعتدال منهج النظر والاستدلال، والتحرر من تحكم الهوى وسيطرة التعصب، ونقلت عنهم مذاهبهم نقلًا يفيد الثقة والطمأنينة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] .

وهذه السمات الشريفة والصفات النبيلة كانت واضحة مميزة للصفوة من الفقهاء الذين تعاقبوا عصرًا بعد عصر، وفريقًا إثر فريق، وكان لهم من عظيم القدر وعلو المنزلة وبالغ الأثر في مجتمعاتهم ما جعلهم القدوة والمثال، والأسوة لمن حولهم من الناس، فمنهم مجتهدون ظهروا في عصر النبوة وفي عهد الصحابة، ومنهم من ظهر بعد ذلك في عهد الدولة الأموية فيما بين منتصف القرن الأول وأوائل القرن الثاني، ونبغ في الدور الرابع أئمة الأمصار من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وانتشرت آراؤهم ومذاهبهم في أطراف البلاد الإسلامية.

<<  <  ج: ص:  >  >>