والثالثة: خرجت من الأفق الضيق المحدود الذي وضعت الفئة الأولى نفسها فيه، وكان درسها للقضايا الفقهية أبعد وأكمل نظرًا، وهي وإن وقفت عند مصدري التشريع في استنباطاتها، فقد كان لوقفتها هذه أثرها في تركيز الفقه على أسس علمية صحيحة ثابتة، وفي العمل على تقليص الخلاف والارتباك الناشئين بين فقهاء المسلمين وأئمة المذاهب.
وما من شك في أن أكثر هؤلاء وأولئك ممن تصدى للاجتهاد كانوا متفقين على اعتماد الأصول الأربعة الأساسية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن اختلفوا في الاستدلال بالاستحسان وبالمصلحة المرسلة وبالاستقراء، ولو كانت ثلاثتها من أنواع القياس، ولم يعتد الكثير منهم بالاستصحاب، وبالبراءة الأصلية، وسد الذرائع، والعرف، وإن عدها الفقهاء في القواعد الفقهية ورجعوا إليها في استنباط الأحكام.
وقوام هذا كله أن يقال: إن هذه الأصول العامة لا يتطرق إليها خطأ في وصفها، ولا قصور في كفايتها وصلاحيتها لكل زمان، لأنها من وضع الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وإنما يقع الخطأ والقصور في الاستنباط منها والبناء عليها؛ لأنها من عمل العقول والأفهام، فقد يقع الخطأ في الطريق إلى ذلك لخفاء بعض حلقات الاستنباط والاستدلال أو فقدانها، وقد يقع القصور في تطبيقها للجهل أو للجمود وضيق الأفق في الفهم والتفكير.
وقد صدعوا بعد التفرقة بين عملية الاستنباط المعتد بها والمعتمد عليها، وبين عملية الاستنباط الناقصة الخاطئة، بأن المجتهد لا يجوز له قطعًا أن يعتمد الرأي الذي تستحسنه العقول دون رجوع إلى دلالة ما نزل به الكتاب، وجاءت به السنة، فإن ذلك ليس من التشريع الإلهي ولا مما تحتاجه الأمة المسلمة، وهو مرفوض، قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام: ٥٧] ، وقال جل وعلا:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الممتحنة: ١٠] .
ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر، فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة، ومن بعدهم على توالي القرون، مهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.