أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب، ومما وقفنا عليه من ذلك
قول ابن خلدون: إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا:
فكلهم من رسول الله ملتمس
غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدين، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال، وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه، وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.
قال أحد العلماء: فقد يكون في بعض المذاهب الاجتهادية من التيسير ما ليس في البعض الآخر، وكثيرًا ما تتفاوت المذاهب الفقهية شدة ويسرًا، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن دائرة الأصول الشرعية التي بنيت عليها. ومن الصور الفقهية الناطقة بذلك ما نجده بين الأئمة من اختلاف في الأحكام والفتاوى. وهذا في ذاته مصدر ثروة تشريعية ونظريات فقهية متعددة. ومما يشهد لذلك وينبه إلى الحكمة فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اختلاف أمتي رحمة)) .
وفي الموافقات للشاطبي تقرير ذلك وبيانه. قال القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله. وقال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.