وعلى هذا تكون كتب المذاهب المختلفة، وفي مقدمتها كتب الخلاف، وكتب السنن والآثار، والفقه المقارن، قد سجلت القواعد والأحكام الأساسية المقررة في الكتاب والسنة، ووضعت الركيزة لمن يروم الاجتهاد اليوم، فهو يواصل السير ولا يبدأه من فراغ، ولكنه في عمله الاجتهادي، ينطلق من تلك الثروة الهائلة من الاجتهادات السابقة التي تعتبر الأساس القوي الذي لا يستهان به، ولا يمكن بحال لمجتهد الاستغناء عنه.
ونحن لا نشك بأن في عودتنا لفقهنا وشريعة ربنا وأصالة تراثنا ما يفتح الآفاق الواسعة لإنقاذنا من التبعية الشائنة، ويحررنا من القوانين الأجنبية الوضعية التي لا تتماشى مع طبيعتنا ولا تتجاوب معنا، كما أن في ذلك تحقيقًا لأمانينا وبلوغًا لحاجاتنا. وإننا بما نقوم به في مجمع الفقه الإسلامي؛ نفتح سبيلًا جديدة لا نلتزم فيها بعد عمق النظر والدرس بمذهب واحد؛ وإنما هو الأخذ بالأقوى برهانًا، والأوفى بمقاصد الشارع وتحقيق المصالح.
وفيما يتطلبه هذا المنهج من بحث ودرس ومقارنة ما يرفع أولًا من مدارك العلماء الفقهية، ويمدهم بغزير الفوائد المترتبة على معرفة وجهات أنظار الأئمة في أحكامهم، والمقارنة بين أدلتهم والغوص على أسرار التشريع الإسلامي ومقاصده في مصنفاتهم وكتبهم الكثيرة، وما يمكنهم ثانيًا من التغلب على التعصب للمذاهب الفقهية، وعلى توسيع شقة الخلاف فيما بينها، بدافع الجمود وضيق الأفق، والوقوف من المسائل الخلافية موقف التنطع والتزمت والتضييق على الناس، كما يساندهم في القضاء على الأنانيات والعنصريات والعصبيات المهلكة التي ترتبت على ما ظهر بينهم من فرقة وتقاطع وتدابر، وأولى الناس باجتناب ذلك والتنفير منه العلماء لما قام بين أيديهم من أدلة.
وقد كان من مميزات الأئمة المتقدمين زمانًا وإحسانًا، والعلماء السابقين المتضلعين في الفقه عنايتهم بهذا الشأن، واحتفاؤهم بهذا المنهج، أمثال القاضي عبد الوهاب في الإشراف، والبيهقي في الخلافيات، وعبد الملك الجويني في الجمع والفرق، وابن الدهان في تقويم النظر، وابن رشد الحفيد في البداية، وابن قدامة في المغني، والقرافي في الذخيرة، ونحوهم ... وهم بحمد الله كثر.
كما تجلى مثل ذلك لدى الشريف المرتضى في الانتصار، والطوسي في الخلاف، والحلي في التذكرة، وابن المرتضى في البحر الزخار. ومثل هذه القوائم يطول في كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي، بإضافة العدد الكبير من علماء القرون الأخيرة ورجال عصرنا، بما ألقاه الشيوخ من دروس في الجامعات الإسلامية، وأشرفوا عليه من رسائل في هذا الفن. وقد لمسنا ذلك في الأزهر والزيتونة، وفي الموسوعات الفقهية، ووجدناه يتجدد على أيدي دعاة التقريب، أمثال الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومحمد محمد المدني، والأعلام من فقهاء أهل البيت كالبروجردي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء ... ونحوهم.