إن باب الاجتهاد قد أقفل منعًا لكثرة الخلاف، وقضاء على الفوضى من الأحكام، ورأى بعض العلماء مع ذلك أن يقتصر الناس على تقليد إمام من الأئمة الأربعة، لما امتازت به مذاهبهم من العناية بالتدوين، والدقة في النقل، والحرص على المحافظة عليها، مما لم يمكن لغيرها من المذاهب التي اضمحلت، ولم يبق منها ما يذكر إلا في كتب الخلاف للبحث والمقارنة والموازنة لا للدرس والمعرفة، فكان من الميسور أن يقلد إمام من الأئمة الأربعة مع الاطمئنان إلى قوله وصحة نسبته إليه ...
على أن ذلك إن ساغ قبوله في بعض الأحوال فلن يصح في بعضها الآخر، كما لا يصح أن يجعل سببًا في قصر الإنسان على تقليد واحد معين منهم، دون أن يكون له الخيرة في أن يقلد من شاء منهم متى شاء إذا ما اطمأن قلبه إلى ذلك، وليس خلاف بعضهم مع بعض بأبعد أثرًا ولا أشد تجافيًا مما كان من خلاف بين أحدهم وبين أصحابه، كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، فإذا جاز أن يعد ما نقل عن جميع الأئمة من الآراء مذهبًا واحدًا كذلك، يتبين منه حكم الله في المسائل المختلفة، بحسب ما يفهم كل مجتهد؛ ذلك ما أراه حقًا، وذلك ما يجب أن تبنى عليه دراسة الأحكام الفقهية في المعاهد المختلفة، حتى يتبين ما لعلماء الإسلام من بحوث، ويتكشف ما كان لهم من نظر، وحتى لا يغيب عن طالب الفقه ذلك التراث المجيد، وما يحويه من أنظار واتجاهات في شرعه، لم يصل إليها التشريع الوضعي في هذه الأيام على تعدد نظرياته وتنوع بحوثه (١) .
(١) أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف، ص٢٧، طبع بنك البركة الإسلامي - البحرين.