ثم نجد في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس، في الوقت الذي كانت السلطة بيد الديالمة، في البلاد الإسلامية، وفي بغداد بالذات، مشاركة ظاهرة في الأوساط العلمية ومجالس الدرس، فتوجد في هذا العهد جماعة من العلماء من السنة والشيعة، يأخذون الحديث، ويتداولون العلم بين بعضهم البعض، فيقدر ويعظم التلميذ أستاذه رغم اختلافهم في المذهب. ونضرب له مثلًا الإمام أبا جعفر الطوسي، إمام الشيعة (٣٨٥ - ٤٦٠) ، فقد كانت جماعة من شيوخه من أهل السنة يروي آراءهم في كتبه بتكريم، وكتابه (التبيان في تفسير القرآن) أصدق شاهد على ذلك، وكذلك كتاباه في الفقه:(مسائل الخلاف) و (المبسوط) ، فقد اتخذ فيها جميعًا طريقة تقريبية حسنة.
ونموذج آخر: الشريف الرضي (المتوفى ٤٠٦هـ) ، فله كتاب (حقائق التأويل) في تفسير القرآن، عديم النظير في الأدب القرآني، ولم يوجد منه سوى مجلد من عشر مجلدات، يروي عن كثير من مشايخه في الأدب والتفسير وغيرها، ويترحم عليهم، وهو من أئمة الشيعة وهم من أهل السنة من المذاهب المختلفة.
ثم نقترب إلى القرن السادس، وفيه إمامان من أئمة التفسير، أحدهما معتزلي: وهو جار الله الزمخشري (م٥٣٨هـ) ، والآخر إمامي: وهو أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (م٥٤٨هـ) ، فيعبر الزمخشري في تفسيره (الكشاف) عن مخالفيه بتعظيم، ويصف الطبرسي الزمخشري وتفسيره بأبلغ وصف، وينظمه ويقدره في مقدمة تفسيره (جوامع الجامع) وقد اختار لُمَعَ ما في (الكشاف) من النكات البلاغية أولًا في كتاب له باسم (الشافي الكافي) ، ثم جمعها مع لمع من تفسيره (مجمع البيان) في (جوامع الجامع) ، ونحن إذ نقدرهما نرى أن (الكشاف) ومجمع البيان من أحسن تفاسير المسلمين.
وبعد ذلك دارت الأيام حتى جاء عهد العثمانيين والصفويين، أحدهم يدعم السنة باسم الخلافة، والآخر يدعم الشيعة باسم الملك، وعند ذلك قامت القيامة، وزيدت في الطنبور نغمة أخرى، وبدأت الحروب والمعارك بينهما من جهة، والتقابل الثقافي وحرب الأقلام بتأليف الردود والنقوض من الجانبين من جهة أخرى، وفيها من الإهانة والفحش والتنابذ بالألقاب ما لا يفوقه شيء، وفي هذا العهد صدرت الفتاوى بكفر الشيعة التي سببت تشديد القتال وإراقة الدماء.