للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الشاطبي عليه رحمة الله: بالأخوة والائتلاف والتعاون يحفظ الدين، وبالتفرق والتخاصم والتنابذ والتدابر يُضاع الدين، وحفظ الدين أول مقاصد هذا التشريع، وجعل الله للاختلاف بين المسلمين - الاختلاف السائغ - جعل له بابًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لأصحابه في غزوة الخندق: ((مَن كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة))

فأدركهم وقت الصلاة في الطريق بعد الحصار الطويل، وقد غابوا رضي الله عنهم عن أزواجهم وأموالهم وعن أولادهم، وكانوا لا يخرجون للخلاء حتى يستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب شدة طاعتهم لله، وحين انقضَّ العدو سارع كل منهم إلى أهله، فأبلغهم النداء، وقد تفاوتوا في عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك وقت الصلاة بعضهم في الطريق، فقالوا: ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منا أن نؤخر الصلاة إنما أراد استعجالنا؛ فلنصلي، وقال بعضهم الآخر: نحن لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نصلي إلا في بني قريظة، فصلى بعضهم في الطريق، وصلى بعضهم في بني قريظة بعد غروب الشمس.

يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: لم يُنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء، ولم ينكر على هؤلاء، وهذه الحادثة لو وقعت بين المسلمين في زماننا هذا لسالت من أجلها الدماء، وسُلت من أجلها السيوف.

أين نحن من هذا الأدب الرباني العظيم الرفيع الذي يعلمنا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وقع الخلاف بعد ذلك بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يتناظرون، وكان بعضهم يرد على بعض، وكان بعضهم يبين لبعض، وكان بعضهم يناقش بعضًا، وكان بعضهم يحاور بعضًا، لكن ما كانوا يهدرون هذه الأخوة الإيمانية التي بدونها لن نحفظ ديننا، ولن نحفظ أنفسنا ولن نحفظ أوطاننا، وأن أعلى وأعظم ما يطمع فيه أعداء الإسلام هو أن يكفي المسلمون الأعداء بعضهم في بعض بالمخاصمة والتقاطع والتدابر والقتال.

<<  <  ج: ص:  >  >>