للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أوصل ابن القيم رحمه الله المسائل التي جرى الخلاف فيها بين عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى مائة مسألة وأكثر، ومع هذا الخلاف المدون فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان أحدهما قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر بن الخطاب. فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى يبتل الحصى بدموعه ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للإسلام حصنًا حصينًا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن.

ويُقبل ابن مسعود يومًا وعمر جالس، فلما رآه مقبلًا قال: ((كنيف مليء فقهًا وعلمًا)) ،

وفي رواية: ((كنيف مليء علمًا آثرت به أهل القادسية)) . هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما. ولم يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلا محبة وتقديرًا واحترامًا، ولنا أن نستنبط من تلك الأحداث ما شئنا من آداب تكون نبراسًا في معالجة القضايا الخلافية.

الصورة الثانية- بين ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: كان ابن عباس رضي الله عنه يذهب - كأبي بكر الصديق وكثير من الصحابة - أن الجد يسقط جميع الأخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان زيد بن ثابت - كعلي وابن مسعود وفريق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - يذهب إلى توريث الأخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يومًا: (ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا) ، وقال: (لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) .

إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد حد طلب المباهلة، رأى زيد بن ثابت يومًا يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده، فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وحين توفي زيد قال ابن عباس، هكذا يذهب العلم، وفي رواية للبيهقي في سننه: هكذا ذهاب العلم لقد دُفن اليوم علم كثير.

هذه نماذج من الاختلافات الفقهية ومواقف المختلفين.

<<  <  ج: ص:  >  >>