للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- يؤيد هذا: أن فقهاء المسلمين في مختلف الأعصار، وشتى الأقطار، لم يقولوا بوجوب الزكاة في هذه الأشياء، ولو قالوا به لنقل عنهم.

٣- أنهم نصوا على ما يخالف ذلك فقالوا: لا زكاة في دور السكنى، ولا أدوات المحترفين، ولا دواب الركوب، ولا أثاث المنازل ونحوها. وإذن يكون الحكم عندهم: أن لا زكاة في المصانع وإن عظم إنتاجها، ولا في تلك العمارات، وإن شهق بنيانها، ولا في تلك السيارات والطائرات والسفن التجارية، وإن ضخم إيرادها.

فإذا قبض من إيرادها شيء، وبقي حتى حال الحول، ففيه زكاة النقود: بشروطها المدونة. وإن لم يبق إلى الحول نصاب أو ما يكمل نصابًا فلا شيء عليه.

والتضييق في أموال الزكاة مذهب قديم، عرف به بعض السلف، وتبناه ودافع عنه الفقيه الظاهري ابن حزم، وأيده في الأعصر الأخيرة الشوكاني، وصديق حسن خان، حتى قالوا: لا زكاة في عروض التجارة، ولا في الفواكه والخضروات ونحوها.

ومن أوضح العبارات في ذلك ما قاله صاحب "الروضة الندية" ردًا على ما قال: في المستغلات –كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، فضلًا عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة. (١)

وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة:

وأما المتوسعون في الأموال التي تجب فيها الزكاة فيقررون وجوبها في الأشياء المذكورة من مصانع وعمارات ونحوها، وهذا هو رأي بعض المالكية والحنابلة –وإن يكن غير مشهور- ورأي الهادوية من الزيدية. كما هو رأي بعض العلماء المعاصرين، أمثال أساتذتنا الأجلاء: أبي زهرة وخلاف وعبد الرحمن حسن. كما سنبين ذلك في المبحث القادم. وهذا التوسع هو الذي أرجحه استنادًا إلى الأمور الآتية:

١- أن الله أوجب في كل مال حقًا معلومًا، أو زكاة، أو صدقة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أدوا زكاة أموالكم)) من غير فصل بين مال ومال.

وقد رد ابن العربي على الظاهرية الذي نفوا وجوب الزكاة في عروض التجارة، لعدم ورود حديث صحيح فيها، فقال: قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} عام في كل مال على اختلاف أصنافه، وتباين أسمائه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل. (٢)

٢- أن علة وجوب الزكاة في المال معقولة، وهي النماء كما نص الفقهاء الذين يعللون الأحكام، ويعملون بالقياس، وهم كافة فقهاء الأمة ما عدا حفنة قليلة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة. ومن هنا لم تجب الزكاة في دور السكنى، وثياب البذلة، وحلي الجواهر، وآلات الحرفة، وخيل الجهاد بالإجماع وكان القول الصحيح سقوط الزكاة عن العوامل من الإبل والبقر، وعن حلي النساء المستعملة المعتادة، وعن كل مال لا ينمى بطبيعتة أو بعمل الإنسان.

وإذا كان النماء هو العلة في وجوب الزكاة، فإن الحكم يدور معه وجودًا وعدمًا، فحيث تحقق النماء في مال وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا.

٣- أن حكمة تشريع الزكاة –وهي التزكية والتطهير لأرباب المال، أنفسهم والمواساة لذوي الحاجة، والإسهام في حماية دين الإسلام، ودولته ونشر دعوته –تجعل إيجاب الزكاة هو الأولى والأحوط لأرباب المال أنفسهم، حتى يتزكوا ويتطهروا، وللفقراء والمحتاجين، حتى يستغنوا ويتحرروا، وللإسلام دينًا ودولة، حتى تقوى شوكته، وتعلو كلمته.

وقد قال الكاساني في دلالة العقل على فرضية العشر فيما خرج من الأرض:

إن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس من الشح ومن الذنوب، وتزكيتها بالبذل والإنفاق، وكل ذلك لازم عقلًا وشرعًا. اهـ.

فهل يكون شكر النعمة، ومساعدة العاجز، وتطهير النفس وتزكيتها بالبذل، لازمًا عقلًا وشرعًا لصاحب الزرع والثمر، غير لازم لصاحب المصنع والعمارة والسفينة والطائرة ونحوها، مما يدر من الدخل أكثر مما تدره أرض الذرة والشعير بأضعاف مضاعفة، ويجهد أقل من جهدها؟


(١) الروضة الندية ج ١ ص ١٩٤
(٢) شرح الترمذي ج ٣ ص ١٠٤

<<  <  ج: ص:  >  >>