للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرد على أدلة المضيقين:

أما قولهم: لا زكاة إلا فيما أخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة؛ فنقول:

إن عدم نص النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الزكاة من مال لا يدل على عدم وجوب الزكاة فيه، فإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأموال النامية التي كانت منتشرة في المجتمع العربي في عصره، كالإبل والبقر والغنم من الحيوانات، والقمح والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار، والدراهم الفضية من النقود.

ومع هذا أوجب المسلمون الزكاة في أموال أخرى لم يجئ بها نص، قياسًا على تلك الأموال، أو عملًا بعموم النصوص، وتطبيقًا لما قرر من حكمة فرض الزكاة.

(أ) من ذلك ما قاله الإمام الشافعي في الرسالة عند زكاة الذهب، قال: وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق و (النقود الفضية) صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة: إما بخبر من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا وإما قياسًا على أن الذهب نقد الناس الذي اكتنزوه، وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان، قبل الإسلام وبعده. اهـ. (١)

واحتمال وجود خبر نبوي لم يبلغ الشافعي في عصره –مع حاجة الناس إلى تناقل هذا الخبر- احتمال ضعيف، فالعمدة هو القياس، وبهذا جزم القاضي الفقيه أبو بكر ابن العربي، فذكر في شرح الترمذي، في بيان الحكمة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضة، ونصابها ومقدار الواجب فيها، وترك ذكر الذهب، قال: "إن تجارتهم إنما كانت في الفضة خاصة، معظمها، فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي، لأن كلهم أفهم خلق الله وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير، طمس الله باب الهدى، وخرجوا عن زمرة من استن بالسلف واهتدى" (٢) وهو يعني بكلمته الأخيرة العنيفة الظاهريين الذين ينفون القياس، ولا يلتفتون إلى العلل.

(ب) ومن ذلك أنه لم يرد نص صحيح صريح بوجوب الزكاة في العروض التجارية، ومع هذا نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية الذين تعلقوا بشبهات واهية فندناها في موضعها.

(جـ) ومن ذلك أن عمر أمر بأخذ الزكاة من الخيل، لما تبين له أن فيها ما تبلغ قيمته مبلغًا عظيمًا من المال، وتبعه في ذلك أبو حنيفة؛ ما دامت سائمة، واتخذت للنماء والاستيلاد.

(د) أن أحمد أوجب الزكاة في العسل، لما ورد فيه من الأثر، وقياسًا على الزرع والثمر، وأوجب الزكاة في كل معدن، قياسًا على الذهب والفضة، ولعموم آية {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .

(هـ) أن الزهري والحسن وأبا يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما الخمس، قياسًا على الركاز والمعدن.

(و) أن كل مذهب من المذاهب المتبوعة أدخل القياس في الزكاة في أحكام عدة، كقياس الشافعية غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في زكاة الفطر، من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير، وكقياسهم كل ما يقتات على الأقوات الأربعة المذكورة، التي جاء بها النص في عشر الزرع والثمر.

٢- وأما قولهم: إن فقهاء الإسلام في جميع أعصاره وأمصاره لم ينقل عنهم القول بذلك –فلأن بعض هذه الأموال النامية لم ينتشر في عصرهم انتشارًا تعم به البلوى، ويدفع الفقيه إلى الاجتهاد والاستنباط، وبعضها لم يكن موجودًا قط، بل هو من مستحدثات الأزمنة الأخيرة.


(١) الرسالة ص ١٩٣، ١٩٤ بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(٢) شرح الترمذي ج ٣ ص ١٠٤

<<  <  ج: ص:  >  >>