لقد قصد أن يترجم مسمى (العلمانية) بهذا الشكل نسبة إلى العلم، مع أن الواقع أنه نسبة إلى العالم، بمعنى دنيوي أو ما يقابل الدين بوجه عام، للتدليس على الفئات غير المثقفة ثقافة إسلامية كافية، لأن العلمانية هي سلوك المنهج العلمي، وحقيقة الأمر خلاف ذلك.
إن أصل العلمانية فلسفي يتصل بواقع سياسي واجتماعي معين مرت به أوروبا، وإن فصل ذلك الواقع عن هذا المسمى يجعلنا نتخبط، فلابد من إلقاء الضوء على ذلك الواقع حتى نلم بالجذور الأساسية لنشأة العلمانية.
فمن الأساس كانت المسيحية تؤمن بسلطتين: سلطة الله وسلطة قيصر، ولظروف مختلفة وتحالفات بين رجال الكنيسة والنظم الإقطاعية التي خنقت الحياة خنقًا وتدخلت في جميع نواحيها، أصبحت الكنيسة تمارس بصورة مباشرة وغير مباشرة سلطات تجاوزت حتى التعاليم الإنجيلية، وللدلالة على ذلك: فبعد الثورة الفرنسية ١٧٨٩م رفع القانون المدني حتى يصبح نافذًا للبابا في عام ١٧٩٠م، وقد رفض مباركته، مما أدخل الدين في مواجهة مع السياسة، ولقد كانت الكنيسة في ذلك الوقت لا تدرك معنى المتغيرات الجديدة وخطورة تحالفها مع الإقطاع، مما ضيق الخناق الاقتصادي داخل كل مقاطعة، ولم تدرك الحاجة الطبيعية الناتجة عن تطور التجارة وتبادل السلع والمنتجات، ولم تدرك الصدمة التي أصابت أوروبا بعد سقوط القسطنطينية؛ فأدى ذلك إلى تكتل غالبية الشرائح الاجتماعية من قوميين ورجال مال وغيرهم من المنتفعين، بل وتضامن رواد البحث العلمي الذين وقفت الكنيسة منهم موقفًا متشددًا فانضم إليهم ذوو الفنون والآداب، ولم يجد هؤلاء مرتكزًا فكريًّا يقاومون به جبروت الكنيسة وطبقية رجال الدين (الأكليريك) سوى اللجوء إلى الفلسفة، التي أعطتهم المبررات للتغيير الجديد، فلجؤوا إلى أفكار الفلاسفة أمثال (توماس هوبز) الذي كان يرى أن الحقيقة تتمثل في المادة، وأن حياة الإنسان وحركته قائمة على حب البقاء، إلى أن ينتهي إلى ضرورة نشوء الحكومة التي تهيمن على كل شيء.
ومن أمثال الفيلسوف (جون لوك) الذي يصل في فلسفته إلى ضرورة إخضاع الدولة للكنيسة والقوانين المدنية، بل المطالبة بتعديل المعتقد المسيحي وجعله عقلانيًّا.