وسبب قبول هذا الاتجاه العلماني في الغرب هو تعرض الديانة النصرانية للتحريف، وإدخال الأغاليط البشرية في صلب مفاهيمها، وحشوها بالخرافات الوضعية، وما وصل إليه رجال الكنيسة من فساد، حتى أمسى الدين النصراني ورجاله في نظر المتنورين الغربيين صورة للخرافة، والظلم الاجتماعي، والفساد المتستر بهيمنة الغيبيات الدينية.
ولقد عرفت العلمانية الأوربية - غير التيار المادي الملحد - تيارًا مؤمنًا بالله، استطاع فلاسفته - من أمثال هوبز Hobbes (١٥٨٨ - ١٦٧٩) ، ولوك Locke (١٦٣٢ - ١٧١٦) ، وليبينز Lebintz (١٦٤٦ - ١٧١٦م) ، وروسو Rousseau (١٧١٢ - ١٧٧٨م) ، وليسنج Lessinc (١٧٢٩ - ١٨٧١م) - التوفيق بين الإيمان بوجود إله خالق للعالم، وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيًا بذاته، فتحصر تدبير الاجتماع البشري في سلطة البشر المتحررة من شريعة الله، وكان هذا التوفيق مؤسسًا على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية. فالله، في التصور الأرسطي، واحد، مفارق للعالم، وخالق له، لكنه قد أودع في العالم والطبيعة الأسباب التي تدبرهما تدبيرًا ذاتيًّا، دونما حاجة إلى تدخل إلهي.
فالعالم مكتف بذاته، تدبره الأسباب المودعة فيه، وهو وحده مصدر المعرفة الحقة، القابلة للبرهنة والتعليل، وتدبير الدنيا مرجعيته الإنسان - بالعقل والتجربة - دون رعاية أو تدبير أو تدخل من السماء - هكذا استندت العلمانية في تأسيس (دنيويتها) على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية - فهو مجرد خالق.. فرغ من الخلق.. وانحصرت عنايته بذاته، دونما رعاية أو تدبير للمخلوقات - كصانع الساعة، الذي أودع فيها أسباب عملها، دون حاجة لوجوده معها وهي تدور!..
وساعد العلمانية على الانتصار لهذه النزعة، التصور المسيحي لعلاقة الدين بالدولة، فهو تصور يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف بالدين عند خلاص الروح ومملكة السماء، دون أن يقدم شريعة للمجتمع والدولة، الأمر الذي جعل (سجن) الدين في الكنيسة.