لقد نشأ المذهب الإلحادي العلماني في الغرب، فالظروف تختلف تمامًا عن ظروف العالم الإسلامي، لقد جاء ولم تكن ثمة تعاليم أو شريعة، ولقد جاء وهنالك طبقة لها مميزات منقطعة النظير، سواء دنيوية أو أخروية، عبر عنها القرآن الكريم بعبارة بليغة بقوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: ٣١] ، وحينما قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - للمصطفى صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم، قال:((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)) ،
فقال: بلى. قال:((فتلك عبادتهم)) .
رواه أحمد والترمذي.
إذن فقد كانت عبادة الطبقة الكهنوتية بهذا المفهوم موجودة، ولما كانت النصرانية لا تمتلك شريعة للعمران الدنيوي بشكل مجمل، وبالتالي تعاليم تنظم علاقة الإنسان ببقية المخلوقات، فلم تكن هنالك تعاليم اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تربوية، فقد انبثقت هذه التعاليم من التسلط الكهنوتي وأضفت على تعاليمها قدسية الدين، الأمر الذي أوقف التطور والتقدم في جميع نواحي العلوم، فدخلت أوروبا عصر الظلمات.
فهل واجهت العلمانية في ديار المسلمين ما واجهته في أوروبا؟ حينما قدم الاستعمار إلى ديار المسلمين لم يجد فراغًا تشريعيًّا، ولم يجد فراغًا خلقيًّا، ولم يجد فراغًا روحيًّا، ولم يجد فصلا بين الدنيا والآخرة، ولم يجد فصلا بين الدين والعلم، ولم يجد فصلا بين الدين والدولة، ولم يجد فصلا بين الروح والجسد، ولم يجد فصلا بين الفرد والمجتمع، ولم يجد أسرارًا وغموضًا في الدين، ففي الإسلام لا توجد أسرار، ولم يوجد تحقير للعقل.
وللدلالة على ذلك نقارن بين ما قام به القديس (انسلم) عام (١٠٣٣ - ١١٠٩) رئيس أساقفة كنتربري، فيقول:
(يجب أن تعتقد أولًا بما يُعرض على قلبك بدون نظر، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان وهو الوسيلة المفردة، في حاجة إلى نظر العقل، والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل فيه نظره)(١) .
(١) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص٢٨ - ٢٩.